محمود السواركة الفدائى المصرى الذى هدد بالأنتحار و نصيحته للثوار

إنه المصري الذي جعل الإسرائيليون من جسده حقل تجارب يدرس عليه طلبة كليات الطب طوال 22 عامًا، فأجروا له سبع عمليات جراحية، وسرقوا أجزاء من جسمه بهدف التدريب والتسلية.

إنه الرجل الذي ترك زوجته بعد عشرة أيام فقط من زواجه، ليقوم بعمليته البطولية الأخيرة ضد إسرائيل.

إنه الرجل الذي رفض مبادلته بالجاسوس الإسرائيلي "عزام عزام"، وهدد بالانتحار إذا حدث ذلك، وقال لإيهود باراك: "أنا فدائي مصري، ولا يمكن أن أقبل مبادلتي بجاسوس خائن".

إنه الرجل الذي يعيش بينا الآن في الظل، من دون أن نشعر به، أو نضعه في مقامه الذي يستحقه.

إنه البطل المصري "محمود السواركة".. الذي عاش حياته كلها مجاهدًا ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، فقام وحده بتنفيذ 21 عملية عسكرية بطولية، أسفرت عن قتل أكثر من ستين إسرائيليًا، وتدمير مئات الآليات العسكرية، ولذلك فقد استحق بجدارة أن تفرد له المخابرات الإسرائيلية وحدة خاصة لاقتفاء أثره، ولم يصدق الإسرائيليون أنفسهم بعد القبض عليه، فكانوا يتوافدون إلى سجن عسقلان وغزة، حتى يتأكدوا بأنفسهم أن "السواركة" قد أصبح بالفعل أسيرهم، وبعدها أصدروا حكمهم عليه بالسجن لمدة 144 عامًا.

إذا كنت تنوي زيارة مدينة العريش قريبًا، فأرجوك ألا تفوت على نفسك فرصة لن تتكرر، بلقاء هذا الرجل والشعور بمتعة الحديث معه، والاستماع إلى بطولاته النادرة التي صرنا نفتقدها، ونحتاج إليها كثيرًا هذه الأيام، صحيح أن الرجل قد قارب عمره على الثمانين عامًا، ولكن قلبه لا زال يشتعل حماسًا، وينقل عدوى حب الوطن لكل من يعرفه.

إسمه "محمود سليمان سلام السواركة"، من قبيلة "السواركة" التي تعد واحدة من أهم القبائل العربية منذ عصر النبوة، وعلى مدار التاريخ برز منها العديد من رموز المقاومة المشرفة، في العام 1960م التحق بقوات الحرس الوطني التي تم تكوينها على يد الضابط المصري "عادل فؤاد"، لمواجهة مخططات المخابرات الإسرائيلية، لم يكن الانضمام للمجموعة سهلاً، فقد احتاج الأمر اجتيازه للعديد من الاختبارات للتأكد من قدرته الهائلة على التحمل، وكانت الخدمة تقتضي منه العمل باستمرار لمدة ستة أشهر متواصلة بدون راحة أو أجازة، بدأ "السواركة" في جمع معلومات وصور عن العديد من المناطق عسكرية، وتفاصيل دقيقة لمفاعل" ديمونة" في صحراء النقب، واستطاع مع رجال الحرس الوطني معرفة موعد الهجوم الإسرائيلي عام 1967، فتم إرسال معلومات مفصلة للقاهرة تؤكد أن الهجوم الإسرائيلي سوف يبدأ خلال ساعات، وأن عملية الإنزال سوف تتم في البحيرات المرة، وهي نفس المعلومات التي أكدها أيضًا الجاسوس المصري "رفعت الجمال" الشهير بـ"رأفت الهجان"، والذي عرفه "السواركة" وتعاون معه في العديد من المهمات.

بعد النكسة تمزقت مجموعته، ولكن لم تتمزق روحه البطولية، فانضم على الفور إلى مجموعة فدائية جديدة، شارك من خلالها في نصب الكمائن للقوات الإسرائيلية وتعطيلها، بالإضافة إلى مساعدة العسكريين المصريين على الانسحاب وتأمينهم، وهداه تفكيره إلى الفكرة التي سببت إزعاجًا شديداً للصهاينة، حيث كان يقوم بنسف مخازن السلاح والذخيرة التي تركتها القوات المصرية، ثم استطاع التغلب على إشكالية ما تسببه الألغام من إيذاء للمصريين سواء كانوا من العسكريين أو المدنيين، فابتكر أسلوبه الخاص لذلك من خلال ربط اللغم بسلك دقيق، ومده بعيداً في طريق مرور الصهاينة، كان يختبئ في حفرة أو في بالوعة مجاري، ممسكاً بالطرف الثاني من الخيط، وعند وصول المركبة الإسرائيلية يبدأ في سحب اللغم ليصبح تحتها مباشرة، مما يسبب أكبر قدر من التدمير، كان اختياره المفضل هو نسف حاملات الجنود، أكثر من الدبابات والعربات المجنزرة، فالولايات المتحدة تعوض إسرائيل أولاً بأول عن خسائرهم المادية، ولذلك فقد كان يحرص على زيادة أوجاعهم، من خلال تكبيدهم أكبر قدر من الخسائر البشرية.

يقدم السواركة اعترافا خطيرًا ومهمًا.. عندما يقر بأنه شارك في إنقاذ العديد من أرواح الجنود المصريين، وكان أحدهم هو الملازم أول "فاروق حسني"، الذي أصبح فيما بعد وزيرًا للثقافة، حيث استطاع "السواركة" أن يؤمن انسحابه من الحرب، ويوفر له الماء والطعام، وهو يثق بأن الوزير يتذكر تلك الأيام، ويدعوه بجدية لاستضافته واستعادة ذكريات الماضي، واصطحابه إلى كل الأماكن التي سلكها وتاه فيها.

بالرغم من أنه لا زال يتكتم على عدد العمليات الفدائية التي قام بها، إلا أنه يعترف فقط بتلك التي اكشفها الصهاينة، ويرفض الحديث عن باقي الأعمال البطولية المخفية حتى الآن، ولكنه على كل حال يعتز ببعضها، ويفخر بتلك العملية التي قام فيها بتعقب أحد قادة العمليات الإسرائيلية في سيناء، والذي رآه "السواركة" وهو يذبح الأسرى المصريين، كان يحرمهم من الطعام والشراب، وعندما يشتد بهم العطش.. يريق الماء تحت أقدامهم، فإذا ما خروا لارتشافه من الأرض ذبحهم هو وجنوده، تعقب بطلنا ذلك القائد لفترة طويلة، حتى حانت له الفرصة في يوم كان يتجول وحيدًا بسيارته العسكرية، رآه "محمود" من بعيد، كان بمقدوره نسف سيارته أو قتله رميًا بالرصاص، ولكنه قرر أن يقطع طريقه ويواجهه، حتى يقتله بنفس الطريقة التي قتل بها الأسرى المصريون، نزل الضابط الإسرائيلي من السيارة بكامل سلاحه، ولم يكن في حوزة "السواركة" سوى "بلطة"، لم تستمر المواجهة سوى بضع دقائق، بتر فيها بطلنا ذراعي اليهودي وساقيه الاثنين، وضربه ضربة خامسة على ظهره سببت له شللاً ، وفي اللحظة الأخيرة قرر أن يبقيه على قيد الحياة حتى يصبح عبرة لغيره من الصهاينة، وقد عاش ذلك القائد حياته على أمل أن يلقى "محمود" في يوم من الأيام، وتشاء الأقدار أن تتحقق له أمنيته، ويتمكن من زيارة "السواركة" وهو في السجون الإسرائيلية، وحينها لم يدخر وسعاً في الانتقام منه وتعذيبه بأبشع الصور.

و يحكى عن هذا بطلنا قائلا قاموا بشد وثاقي، وأدخلوا علي كلباً مدرباً لينهش لحمي كان منظر الكلب مخيفاً.. اقترب مني وأنا ملقى على أرضية السجن وبدأ يمد لسانه ويقرب وجهه من وجهي مكشراً عن أنيابه لم أتعود الاستسلام، كانت المقاومة قانوني وفوجئ الضباط الصهاينة بي انقض بأسناني قاضماً لسان كلبهم المدرب جن جنونهم.. فهجم عليّ أحد ضباطهم، وأخذ يركلني في أنحاء متفرقة من جسدي، لا تزال آثارها باقية إلى الآن.

ها أنذا.. "محمود السواركة" أعود إليكم من جديد، لقبوني ب"مانديلا العرب" فإذا كان "مانديلا" قد خرج من سجنه في جنوب أفريقيا بعد 27 عامًا ليصبح رئيسًا للجمهورية، فأنا خرجت من السجن الصهيوني بعد 22 عامًا ذقت خلالها ما لا يخطر على بال بشر من الإيذاء والتعذيب هل يمكنك أن تتخيل بأنه قد حكم علي بالسجن لمدة 441 عامًا؟ وأني بقيت في الحبس الانفرادي لمدة 12 سنة متتالية لا يدخل علي في محبسي سوى الصراصير؟ وأن الله قد رزقني بطفلة جميلة بعد دخولي السجن لم أشاهدها على الإطلاق؛ إلا وهي عروس تجاوزت العشرين عامًا.

كنت قد حكيت لكم الأسبوع الماضي عن بطولاتي وعملياتي الفدائية ضد إسرائيل، والتي قتلت خلالها ما يزيد عن الستين إسرائيليًا، لأصبح على رأس المطلوبين أمنيًا في منطقة سيناء، واليوم أقص عليكم مغامرتي الأخيرة والقاصمة.. تلك التي تمكنت خلالها من تدمير حافلة إسرائيلية تحمل 52  ضابطاً وجندياً، لازلت أذكر ذلك اليوم بمنتهى الوضوح وكأنه البارحة..كان ذلك في سبتمبر 1977، بعدما قضيت ثلاثة سنوات كاملة أتتبع تلك الحافلة، وأخطط للإجهاز عليها في اللحظة المناسبة، يومها بقيت مختبئًا لعدة ساعات في بالوعة مجاري ومعي طرف الحبل، وقد ربطت في طرفه الآخر ثلاثة ألغام، وفي اللحظة المناسبة جذبت الألغام وقتلت كل الركاب، لم يتبق من الحافلة سوى الحديد المتفحم، أثناء خروجي من بالوعة المجاري فقدت حذائي واضطررت إلى السير حافياً، عثر عليه الجيش الصهيوني وعرفوا أنهم قد وقعوا على صيد ثمين، ولذلك فقد لجئوا إلى متخصصين في اقتفاء الأثر، والذين أكدوا أن هذا الحذاء لي وقبضوا عليّ بعد عقد قراني بعشرة أيام، قاموا بمقارنة قدمي بالأثر فوجدوه طبق الأصل، ضربوني فأنكرت.. واعتقلوا معي زوجتي "عائشة" وشقيقي "حماد" و"سلام"، ولكن أفرج عنهم من سجن العريش بعد 54 يوماً أما أنا فتم ترحيلي إلى سجن غزة ثم "أشكلون"، وهناك في غرفة التحقيق أجلسوني على كرسي به أكثر من 250 مسمارًا، وكان يشرف على عملية تعذيبي العديد من المسئولين الإسرائيليين ومن ضمنهم "أيهود باراك"، جعلوا من جسدي حقل تجارب يدرس عليه طلبة كلية الطب، فأجروا لي سبع عمليات جراحية من دون أن أكون مريضاً، قاموا بسرقة بعض أعضاء جسدي، فأخذوا "السرة" وأجزاء من المعدة ومن "المصران الأعور"، كانوا يوجهون خراطيم المياه المثلجة على جسدي العاري، ثم يسكبون عليّ مياها تغلي، بهدف الحصول على أي معلومات، ولكنهم فشلوا.. وألهمني الله تعالى الصبر وقوة تحمل لا أعرف من أين جاءتني حينها.

ذات يوم جاءني "إيهود باراك"وقال لي: أخبر أهلك أن الزيارة المقبلة ستكون آخر زيارة، أجبته ببساطة: الحمد لله.. هل ستفرجون عني؟ فأجاب: لا ولكنك ستموت هنا، فضحكت وقلت له: أموت وإياك سوياً بإذن الله، عندها استشاط غضباً وقرر سجني انفرادياً، وهكذا اختفى اسمي من على الوجود، لم يكن معروفًا إذا ما كنت على قيد الحياة أم لا، كان الإسرائيليون ينكرون وجودي لديهم أحياناً، وينكرون معرفتهم بي في أحيان أخرى، وبقيت في الحبس الانفرادي لمدة تزيد عن 12عامًا، حتى جاء الفرج ودخل معي السجين اللبناني "جمال محروم"، كان خليلي في وحدتي خمس سنوات وكان خروجه هو البداية التي عرف فيها العالم بحكايتي، فالفدائي اللبناني لم تنسه فرحة الإفراج عنه ولقاء الوطن والأهل قصة زميله "السواركة"
فبدأ على الفور بمراسلة جهات مصرية عدة، والكثير من منظمات حقوق الإنسان، وعقد أكثر من مؤتمر صحفي، وسرعان ما تيقنت مصر من صدق كل معلومة قالها عني، واضطرت إسرائيل للإفراج عني، بعد أن ظلت قصتي لسنوات طويلة أشبه بالأساطير. عند خروجي توقعت أن يتم استقبالي كالأبطال بعد هذه السنوات الطويلة من التضحية، وأصدقكم القول أني قد تألمت في البداية حينما وجدت التجاهل من المسئولين المصريين، شعرت ببعض الضيق حينما لم أجد استجابة لطلبي الذي تقدمت به للشئون الاجتماعية بهدف الحصول على معاش لائق، أو مساعدتي في إجراء عملية إزالة المياه من على عيوني التي ضعف بصرها بعد حلقات التعذيب الإسرائيلية، ولكن صدقوني.. فأنا لست حزينًا على الإطلاق مهما حدث فسوف أحتسبه في سبيل الله، ومن أجل الوطن الذي يستحق منا الكثير لا أنتظر جزاء ولا شكورًا من أحد، ويكفيني تقدير شعب مصر، وسعادتي حينما ألتقي مع الأجيال الجديدة من الشباب، كم أشعر بالفخر عندما أروي لهم بطولاتي ومغامراتي وأجد في عيونهم الحماس، يكفيني يا أبنائي أن تذكروني بالخير وأن أصبح سببًا في إعلاء قيمة حب الوطن، إياكم أن تخلطوا بين مشاعركم تجاه الوطن وتجاه النظام الذي يحكمه، بلدنا تحتاج منا الكثير لنقدمه بإخلاص.

صدقوني.. لست نادمًا على ما قدمته لديني ووطني ولو عادت الأيام بي مرة أخرى فسوف أفعل ما فعلته وزيادة


أما الآن فإن كل ما أتمناه أن يكتب لي الله الشهادة في نهاية عمري..

قولوا آمين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق