فهمى هويدى...أختلفت معادن الرجال


fahmy howaidy
بقلم: فهمي هويدي
2 ابريل 2011 09:16:07 ص بتوقيت القاهرة

اختلفت معادن الرجال

 صدق أو لا تصدق. قدم رئيس ديوان المحاسبة استقالته من منصبه حين أدرك أن القصر يضغط عليه للتلاعب فى تقرير أعده للبرلمان، وانتقد فيه صرف خمسة آلاف جنيه لأحد رجال الحاشية بغير مستندات. أرجوك لا تتسرع فى التفاؤل أو إحسان الظن واقرأ الحكاية أولا. فالرجل الذى فعلها هو محمود «بك» محمد محمود، والقصة كلها وقعت فى سنة 1950، وقد سجلها صاحبنا بخط يده فى وثيقة من أربع صفحات تحتفظ بها مكتبة الإسكندرية، وخلاصتها كالتالى: أبلغ محمود بك بأن الملك مستاء من «تلسين» رئيس ديوان المحاسبة عليه فى عدة أمور، كان من بينها علاقة القصر ببعض الأنشطة والمشروعات مثل الضريبة على الإيراد العام ويخت المحروسة (الخاص بالملك) وشركة طيران سعيدة. نفى رئيس الديوان الادعاء. وقال لفؤاد سراج الدين باشا وزير الداخلية، الذى نقل إليه الرسالة انه لا يجد سببا لاستياء القصر سوى أمر آخر مختلف تماما، هو أن تقرير الديوان الذى كان تحت الطبع انتقد صرف مبلغ خمسة آلاف جنيه لكريم ثابت باشا ـ المستشار الصحفى للملك. من ميزانية مستشفى المواساة. ذلك أن ممثلى ديوان المحاسبة استكثروا صرف المبلغ الكبير (آنذاك) للدعاية، خصوصا أنه لا توجد مستندات خاصة بمفردات المبلغ أو الأوجه التى أنفق فيها. وهو ما اعتبره الديوان مخالفة ما كان له أن يسكت عليها. أضاف محمود بك أنه لا يشك فى أن كريم ثابت هو الذى أوغر صدر الملك عليه فافترى ما افتراه. حينئذ ألح عليه فؤاد باشا أن يزور رئيس ديوان الملك، حسن باشا يوسف. وفى ذلك اللقاء طلب منه حسن باشا صورة مما تضمنه تقرير الديوان بخصوص واقعة صرف الخمسة آلاف جنيه، ثم أضاف قائلا: إذا قدمت إليك المستندات الخاصة بصرف المبلغ، هل يوضح ذلك الأمر ويصبح الموضوع منتهيا؟ عندئذ رد محمود بك قائلا: إنه أبدى رأيه بخصوص الموضوع فى التقرير المقدم إلى البرلمان، ومن ثم فتبرير ما جرى ينبغى أن يكون أمام البرلمان.


فى اليوم التالى أبلغه حسن باشا يوسف بأن الملك تفهم الأمر وأدرك أن موقفه سليم، فشكره «محمود بك» على ذلك وقال إنه قرر الاستقالة من منصبه. لكن حسن باشا ألح عليه أن يبقى، وفعل ذلك أيضا فؤاد باشا سراج الدين، ومصطفى النحاس باشا الذى قال له إن هناك أمورا تحتاج إلى بعض السرية، وانه لا غضاضة فى حذف ما ورد بشأن مستشفى المواساة من التقرير. لكنه ــ محمود بك ــ تمسك بقرار الاستقالة، وقال للنحاس صراحة إنه لا يستطيع أن يستمر فى منصبه لأنه لم يعد مطمئنا إلى أنه لن يطلب منه تغيير أو حذف أى شىء يسجله فى التقرير.


أوراق محمود بك تحدثت عما هو أبعد من ذلك. إذ ذكر أنه فى لقائه مع رئيس ديوان الملك تحدث عن تجاوزات مالية فى وزارة الحربية بخصوص تجهيزات حملة فلسطين، مضيفا أن بعض كبار موظفى وزارة الحربية يحاولون تنحيته عن منصبه بسبب هذا الموضوع. وفهمنا من تلك الأوراق أن تجاوزات أولئك الكبار فى وزارة الحربية كانت من بين المخالفات التى تضمنها تقرير ديوان المحاسبة.


لم تمر استقالة محمود بك، لأن مصطفى بك مرعى عضو مجلس الشيوخ قدم استجوابا للحكومة فى 8/5/1950 حول أسباب استقالة رئيس ديوان المحاسبة. وهاجم الحكومة بشدة بعدما ذكر أن التجاوزات المالية التى أثبتها تقرير الديوان وراء تلك الاستقالة. وبعد ذلك غادر مصر إلى أوروبا بدعوى الاستشفاء. المهم أن إثارة الموضوع أحدثت ضجة كبيرة فى الأوساط السياسية لأنها استدعت ملف الأسلحة الفاسدة، وكانت تلك الأجواء هى التى وفرت مناخا مواتيا لتحرك الضباط وقيامهم بثورة 23 يوليو.


لقد رويت القصة بمناسبة ما أثير عن التعديلات التى ظل رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات يدخلها على تقارير الجهاز لنحو 12 عاما لاستجلاب رضى الرئيس السابق والاحتفاظ بمنصبه، مما أسهم فى استفحال الفساد الذى صرنا نصدم بما ينشر عنه هذه الأيام، لست آسى على الزمن الذى مضى، لكننى أتحسر على اختلاف معادن الرجال.
Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق