إيهاب التركي يكتب: حكاية الراجل اللى قال للرئيس "اعمل نفسك ميت"!


جلس الرئيس السابق على كرسيه وعلى ملامحه الغضب والقلق الشديدين، نظر الى زوجته التى تكومت فى كرسى قريب منه تبكى شاردة .. لقد فشلت جميع محاولاته للهرب من المصير الذى ينتظره: المحاكمة والسجن وربما الاعدام، شعر بالندم على تأخره فى الهروب منذ الأيام الأولى للثورة، لكنه كان ساعتها يتعامل مع الموقف كرجل عسكرى عليه ألا يستسلم بسهولة، انه كطيار وعسكرى سابق أعصابه من فولاذ .. كان عصبياً للغاية فى هذا اليوم وهو فى انتظار مستشاره المخلص لانقاذه من ورطته، طلب منه فى التليفون أن يفكر فى حل لورطته بعد أن فشل جميع من حاول انقاذه من هذا المصير وآخرهم أمير خليجى أرسله ملكه فى مهمة خاصة وهى منع المصريين من سن سنة جديدة فى المنطقة وهى أن يحاكم الشعب حاكمه الذى خلعه .. وأخذ الرئيس ينقر بتوتر على صحيفة كان يمسكها، صحيفة كانت قريبة الى قلبه وتعود قراءتها كل صباح فتشعره باطمئنان على أن ملكه وسلطانه بخير. طرق الحارس على الباب ودخل معلناً قدوم مستشاره وصديقه المخلص الذى لم تطله يد النائب العام حتى الآن، ولم يقبع مثل كثير من مسئولى الدولة وأبناء الرئيس سجن طرة.

حياه الصديق بأدب وسأله عن صحته ولكن الرئيس نظر اليه بقلق وقال له بعصبية: لقيت حل؟ ازاى أبقى بعيد عن السجن؟ نظر الصديق بجدية الى الرئيس وقال ببساطة: سيادة الرئيس .. اعمل نفسك ميت!

بالطبع الحوار السابق لم يحدث ولكن يمكن تخيل انه حدث بصورة أو بأخرى، ولمَ لا يعمل المرء خياله فيما يخص الرئيس السابق كما تفعل كثير من الصحف الآن؟ صحف تروى لنا بخيال واسع عما يفعله مبارك في شرم الشيخ وهى قصص تبدو مقتبسة من مشهد "اعمل نفسك ميت"، وهو الحل الكوميدى الذى لجأ اليه الممثل الراحل علاء ولى الدين فى فيلم (الناظر) حينما وجد انه لن يتمكن وصديقه أحمد حلمى على تحمل ضرب مجموعة من الشباب الأقوياء فكان الحل بعد أول لكمة أن يمثل كل منهما انه ميت حتى ينصرف الشباب مفتول العضلات عنهم ولا تكتمل العلقة.

 بعد أن بدأت عملية التحقيق مع الرئيس السابق وعائلته بشكل واجراءات قانونية عادلة تمثلت فى القبض على الرئيس وابنيه، وبعد نقل الابنين الى سجن طرة بقى الرئيس فى مستشفى شرم لمتابعة حالته الصحية ومرت الأيام بين روايات متناقضة تنشرها الصحافة عن استقرار وتدهور صحته، ويمكنك أن تجيب على سؤال كيف حال صحة الرئيس السابق باجابتين: الأولى تقول انه يعانى من اكتئاب متوقع نتيجة التحقيق معه وسجن ولديه بالاضافة الى أمراض الشيخوخة وهذا كلام الطبيب الذى كشف عليه، ويمكن أيضاً أن تقول انه على وشك الموت كما يحلو لبعض الصحف أن تكتب، وخلال الأيام الماضية بدأت بعض الأخبار الصحفية تنقل حكايات وقصص خاصة من داخل غرفة الرئيس، وهى أخبار مؤثرة تكاد تنافس أفلام الراحل حسن الامام، نتذكر حين نقرأها صورة شرير الفيلم زكى رستم الذى يهده المرض فى نهاية الفيلم فيجلس على سريره مسكيناً بالغ الوهن مثير للشفقة، وتجلس بجواره زوجته أمينة رزق تبكى وهى تستقبل من حين لآخر ضيوفها الذين يواسونها بالكلام والزهور، وهذه الصورة ليست مبالغة ساخرة، وهى لا تساوى شىء بجوار القصة القادمة التى قدمتها الأهرام فى عودة غير مبررة للأخبار التعبيرية المستفزة حيث كتبت فى عددها بالأمس خبر عنوانه: "‏5‏ دقائق مع الرئيس السابق بشرم الشيخ : أم ماجد بدوية تقابل مبارك بغرفة العناية المركزة"، ونص الخبر:

"لم تتوقع أم ماجد السيدة البدوية أنها ستقابل الرئيس السابق مبارك داخل مستشفي شرم الشيخ الدولي ولعبت المصادفة دورها في وجودها بالمستشفي فراودتها فكرة مقابلته وصعدت إلي الدور الثالث الذي يرقد فيه مبارك داخل غرفة العناية المركزة.

 وبعد صعودها فوجئت بحراسة مشددة علي الغرفة لكنها أصرت علي المقابلة وأبلغت الحراسة أنها تريد أن تطمئن علي صحة الرئيس السابق فطلبوا منها الانتظار, ودخل أحدهم إلي الغرفة ولم تمر دقائق حتي خرج وسمح لها بالدخول إلي غرفة مبارك, وكانت هي السيدة الوحيدة التي استطاعت مقابلة الرئيس السابق والتحدث معه وجها لوجه بعد تنحيه عن الحكم. فماذا دار في لقاء أم ماجد مع مبارك.
تقول: دخلت عليه وكان علي السرير مضجعا علي ظهره وتبدو عليه علامات المرض فسلمت عليه وقلت له ألف سلامة عليك يا ريس, فسلم هو عليها وبصوت خافت قال لها الله يسلمك, ولم تتمالك نفسها عندما شاهدته بهذه الحالة فانخرطت في البكاء الشديد, ثم سلمت علي زوجته سوزان التي كانت تجلس بجواره حيث أخذتها بين ذراعيها وقبلت كل منهن الأخري.

وقالت, إن هذه اللحظات كانت صعبة عليها لأنها لم تصدق ما يجري أمامها وهي تشاهد الرئيس السابق في هذه الحالة, ومقيد الحرية تحت الحراسة.

وقالت إن الشخص الذي قام بادخالها الحجرة كان يقف بالغرفة ولكنه لم يتحدث نهائيا.. وأن زيارتها له استمرت 5 دقائق.. وكانت هي في حالة شديدة من البكاء الشديد, وأنها لم تتحاور معه نهائيا, وكانت سوزان مبارك تربت علي كتفيها وتطلب منها الكف عن البكاء, وبعد أن تمكنت من السيطرة علي دموعها. قالت له سلامتك يا ريس للمرة الثانية, قال لها الحمدلله, وقالت زوجته شكرا لك علي الزيارة, فسلمت عليه وقبلته من رأسه حيث تذكرت والدها في صورته, وشعرت بأنها تقبل والدها المريض العجوز وهي غير مصدقة بما أقدمت عليه."

هنا ينتهى خبر الأهرام الذى حاولت فى مقدمة هذا المقال تخيل كواليس له، والسؤال بعد الترحم على حسن الامام وتراجيدياته التى أثرت فى كاتب الخبر نقول: ما هى فائدة نشر هذا الخبر الذى لا يمكن تصديق أى حرف فيه؟ انها محاولة مفضوحة لاستدرار عطف القراء على الرئيس المريض، فلو صدقنا جدلاً أن بدوية بسيطة تمكنت من دخول مستشفى شرم الشيخ الموضوع تحت حراسة مشددة، والصعود ببساطة الى الطابق الموجود به الرئيس الذى سمح لها بالدخول عليه وهو فى حالته التى وصفها الخبر وظلت واقفة مع سوزان مبارك وهما فى حالة بكاء متواصل لمدة 5 دقائق لوجبت محاسبة اللواء منصور العيسوى لانه لم يقم بتأمين شخص أهم متهم فى مصر الآن وهو رئيس الجمهورية السابق المحبوس على ذمة التحقيق.

 يحق لنا أن نتوقع خلال الأيام القادمة ظهور أم ماجد فى التليفزيون لتحكى نفس الحكاية مع مذيعة توك شو تجيد التأثر والبكاء، ولن يعدم من يحاول ابقاء مبارك بعيداً عن المحاكمة العثور على ممثلة كالتى ظهرت على قناة المحور وادعت انها من الثوار وانها عميلة تدربت فى أمريكا، ولا ننسى أن بعض زيارات الرئيس نفسها كانت تمثيل فى تمثيل، وهل هناك من ينسى الفلاح الذى جلس الرئيس ليشرب معه الشاى واتضح بعد ذلك انه مخبر يعمل فى الداخلية؟

الرئيس السابق عجوز ومريض هذه حقيقة، ولكن العدل والقانون يمنحه فقط حقوق الرعاية الطبية التى تستحقها حالته الصحية بلا زيادة أو نقصان، القانون لا يمنحه عفو عن جرائم قتل 846 شهيد واصابة 6467 متظاهر برىء منذ شهور قليلة، ولا يسامحه عن أموال طائلة سرقها وهربها وخبأها وسهل الاستيلاء عليها طوال 30 عاماً، ولا يرفع عنه عقوبة الفساد والافساد الذى طال البلاد طولاً وعرضاً .. هذه الثورة سلمية وبيضاء لكنها ليست ساذجة وبلهاء، هى ثورة لا تنتقم حينما تطالب بمحاكمة كل من أجرم حتى لو كان رئيس الجمهورية، ونظرة فى تاريخ الثورات على الطغاة سيجد أن مصر لم تعامل آل مبارك مثلما عامل الشعب الرومانى شاوشيسكو الذى أعدم وزوجته رمياً بالرصاص، ومثل بجثتيهما.

ثورة مصر الشعبية السلمية الأهم فى التاريخ تسعى فقط للعدالة، تسعى لحقن دماء الأجيال القادمة من خلال تطبيق العدالة الالهية: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ). لن تجدى مع العدالة والقصاص مشاهد الأفلام العربى التى يتصنعها الرئيس أو التى يتصنعها بها بعض الصحفيين، أو التى يخرجها الراجل اللى قال للرئيس "اعمل نفسك ميت".
المصدر جريدة الدستور الأصلى

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق