بلال فضل .. إسرائيل لا تحب الفرجة

إسرائيل لا تحب الفرجة
بقلم   بلال فضل    ١٢/ ٥/ ٢٠١١

٢- لذلك إذا كانت إسرائيل فى تلك الأيام من سبعينيات القرن الماضى قد ساهمت فى طبع الأوراق التى تحمل مطالب المسيحيين فى مطابعها، فقد نجحنا بغبائنا السياسى وتخلفنا الفكرى فى تكريس تلك الأوراق فى واقعنا، لتصبح أسسا لفتنة دائمة اليقظة،

 بدلا من أن نستغل روح الانصهار الوطنى التى تجلت فى حرب أكتوبر بين المسلمين والمسيحيين والتى كانت يمكن أن تشكل نقطة انطلاق لتطهير الجيوب الطائفية إلى الأبد، وأرجو منك الرجوع مثلا إلى العدد التذكارى المتميز الذى أصدرته قبل شهرين مجلة «الإذاعة والتليفزيون» عن حرب أكتوبر المجيدة، وضم صفحات مشرقة ومذهلة حول تفاصيل العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى حرب أكتوبر، ولو كان لهذه الدولة عقل لما قامت فقط بتحويل هذه القصص إلى أعمال درامية وفنية، بل لأدمجتها بشكل مشوق وإبداعى ضمن مناهج التعليم، للأسف سيتمزق قلبك وأنت تقرأ تلك الوقائع المجيدة ثم تتذكر كيف قمنا بأنفسنا ودون أى تدخل خارجى بهزيمة ذلك النصر بمجموعة من السياسات الحمقاء جعلت الكنيسة تتحول شيئا فشيئا إلى ممثل سياسى للمسيحيين الذين انعزلوا عن المجتمع أكثر وأكثر، وجعلت الدين يتحول إلى وسيلة يبرر بها الحاكم كل قراراته الخاطئة والمتخبطة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا،

وها نحن بعد عشرات السنين من رفعنا شعار دولة العلم والإيمان، أصبحنا دولة لا فيها علم ولا فيها إيمان من ذلك الذى يقر فى القلب ويصدقه عمل يجعل الناس يغيّرون واقعهم ويصنعون لأنفسهم مستقبلا أفضل.

لكن ذلك كله للأمانة لم يكن خطأ فرد وحيد، حتى لو سلمنا بكل ما للحاكم الفرد فى مصر من دور مركزى وخطير، بقدر ما كان خطأ أمة بأكملها، أمة لا تقرأ ولا تعقل ولا تعرف عدوها، أو بمعنى أصح لا تعرف من هو عدوها، ولا تتعلم من هذا العدو وتقدمه وديمقراطيته، ولا تخطط لمستقبلها مثلما يخطط هذا العدو لمستقبله، ولو كانت تفعل كل ذلك لعرفت أن ما يحصل فى المنطقة من لعب بسلاح الفتنة الطائفية الفتاك كانت إسرائيل تخطط له وبدقة منذ مطلع عام ١٩٥٤.

للأسف، مشكلة كثير من أبناء وطننا الذين يلعبون بالنار فى ميدان الفتنة الطائفية أنهم يعتقدون أن نهاية ما يقومون به محسومة لا محالة، وأن الطرف الآخر سواء كان مسلما أو مسيحيا سيتراجع حتما ولزما فى وقت ما، لأن طبيعة الأمور فى مصر أن يتراجع الكل فى توقيت ما، لتستمر الحياة على طريقة (ومازال النيل يجرى)، دون أن يتذكر الجميع أنه لا توجد فى هذه الدنيا حقيقة خالدة أبدية سوى الموت، وأن كل شىء قابل للتغير والتبدل بما فى ذلك النيل الذى لم نتعلم شيئا حتى الآن من تلك الحقيقة المفزعة الطازجة، وهى أنه حتى النيل يمكن ألا يجرى إلى الأبد، إذا لم نجتهد من أجل أن يستمر جريانه وتدفقه.

دائما عندما يتحدث هؤلاء عن سيناريو الفتنة الطائفية الذى شهدته دول مثل لبنان والعراق، ستجد ردودا جاهزة كلها من نفس قطعية (ومازال النيل يجرى)، ستجد من يحدثك عن فكرة الأقلية العددية، أو عن فكرة الشخصية المصرية المسالمة، وما إلى ذلك من الأفكار التى تتخذ دائما ذريعة لإغلاق أى نقاش جاد يمكن أن يثير القلق حول المحاولات المستمرة لتفتيت المجتمع المصرى. ولهؤلاء جميعا سأسأل ما رأيكم فى الفقرة التالية التى سأضعها بين أيديكم الآن: «من الواضح أن لبنان هو أضعف حلقة فى سلسلة الجامعة العربية،

 لكن مصر هى الأشد تماسكا ورسوخا بين الدول العربية، والأقلية المسيحية لا تمس سلامة الدولة والأمة، وهذا الوضع لا ينطبق على المسيحيين فى لبنان، فإنهم أغلبية، ولهذه الأغلبية تقاليد وحضارة تختلف كلية عن تقاليد وحضارة باقى بلاد الجامعة العربية، وإنشاء دولة مسيحية هنا هو شىء طبيعى له جذور تاريخية، وسيلقى تأييد قوى كبيرة فى العالم المسيحى». هل تبدو هذه الفقرة متسقة تماما مع تفكيركم الذى تطمئنون به أنفسكم بأنه لا يمكن أبدا أن نخشى من تفاقم ملف الفتنة الطائفية فى مصر؟!

طيب ما رأيكم أن هذه الفقرة مقتطعة من رسالة أرسلها ديفيد بن جوريون أول رئيس وزراء لإسرائيل إلى خليفته فى رئاسة الوزارة موشى شاريت بتاريخ ٢٧ فبراير ١٩٥٤، وكان بن جوريون وقتها متقاعدا فى مستعمرة سديه بوكر، لكنه لم يكن منشغلا بلعن سنسفيل من أخرجوه من الحكم دون أن يدرى لماذا دخل ولا لماذا خرج، ولم يكن منشغلا بمحاولة إقناع من حوله بأن إسرائيل لن تشوف خيرا من بعده، بل كان منشغلا برسم تصورات لمستقبل إسرائيل فى الخمسين عاما المقبلة، وكان خليفته بدوره مهتما بمناقشة هذه التصورات وتأملها والبحث فى كيفية وضعها فى اعتبار جميع صنّاع القرار فى إسرائيل.

ورغم أن موشى شاريت وعدداً من السياسيين الإسرائيليين على رأسهم إلياهو ساسون وجهوا رسائل إلى بن جوريون يعترضون فيها على تصوراته بضرورة السعى لإقامة دولة مسيحية فى لبنان بكل ما أوتيت إسرائيل من قوة، فإن ذلك الحلم الذى تخيله بن جوريون لم يمت أبدا بل وجد بمرور السنين، كما يرصد الأستاذ محمود عوض، من يواصل اعتناقه والسعى له، بدأ ذلك على يد إسحاق رابين فى سنة ١٩٧٥، ثم استمر على يد مناحم بيجن فى سنة ١٩٧٧، واعتبره إسحاق شامير فى ١٩٨٣ ضرورة حيوية، ثم أصبح مع الوقت ثابتا فى السياسة الإسرائيلية يتوارثه جميع الزعماء على اختلاف توجهاتهم.

هذا عن لبنان، لكن ماذا عن مصر؟، وإذا كان بن جوريون قد أدرك فى ذلك الوقت المبكر جدا من عمر إسرائيل الوليدة أن اللعب بالورقة الطائفية فى مصر أمر يكاد يصل إلى درجة المستحيل، فهل يعنى ذلك أن إسرائيل استسلمت لهذه الحقيقة وركنت لها؟

بالعكس تماما، لقد قضت إسرائيل سنوات طويلة تحاول بكل ما أوتيت من قوة وإمكانيات التغلب على هذه الحقيقة التى رصدها بن جوريون، وفى خلال أقل من ثلاثين سنة كانت ملامح الاستراتيجية الإسرائيلية قد تغيرت تماما، ففى وثيقة إسرائيلية خطيرة نشرت فى فبراير ١٩٨٢ وينقلها الأستاذ محمود عوض، رحمه الله، فى كتابه المهم المظلوم وعنوانها (استراتيجية إسرائيل فى الثمانينيات) نقرأ بصراحة ووضوح ما يلى «إن مصر إذا ما قسمت، فإن بلادا مثل ليبيا والسودان وحتى الدول الأكثر بعدا، لن تستمر فى البقاء بصورتها الحالية، وسوف تلحق بسقوط وتفسّخ مصر. إن وجود دولة قبطية مسيحية فى صعيد مصر إلى جانب عدد من الدويلات الضعيفة ذات السلطة المحلية جدا وبلا حكومة مركزية ما هو قائم حتى الآن هو المفتاح لتطور تاريخى، يبدو فقط حتميا على المدى البعيد».

سأترك لك التعليق بعد أن تلتقط أنفاسك قليلا، فى حين سيضطرنى ضيق المساحة إلى أن أقفز زمنيا إلى وثيقة إسرائيلية خطيرة عبارة عن محاضرة ألقاها آفى ديختر وزير الأمن الداخلى الإسرائيلى أمام معهد أبحاث الأمن القومى الإسرائيلى بتاريخ ٤ سبتمبر ٢٠٠٨، عن تقدير الكيان الصهيونى للوضع فى المنطقة خلال الفترة المقبلة، ولست أنا أول من أشير إليها، بل سبقنى الكثيرون وعلى رأسهم الكاتب الكبير الأستاذ فهمى هويدى فى أكثر من مقال له بجريدة «الشروق»،

ورغم أنه لا توجد صحيفة فى مصر، أيا كانت، يمكن أن توفر سقفا واسعا من الحرية يسمح بنشر تلك الوثيقة كاملة، إلا أن العثور على نصها ليس مستحيلا على شبكة الإنترنت، وأستطيع أن أقول إنه رغم ما يبدو فى تلك الوثيقة من حرص على استقرار الوضع السياسى فى مصر بتركيبته الحالية وضرورة إنجاح مشروع التوريث وتمتين العلاقة مع طبقة رجال الأعمال الحالية، إلا أن أخطر ما فى الوثيقة هو تأكيد آفى ديختر بالنص على أن «قاعدة (مصر خرجت ولن تعود إلى المواجهة مع إسرائيل) هى الحاكمة لموقفنا تجاه مصر، وهو موقف يحظى بالدعم القوى والعملى من جانب الولايات المتحدة»، ولا أظن أن وضع هذه العبارة فى سياق كل ما سبق التخطيط له بدءاً من الخمسينيات يمكن أن يجعل عاقلا يغفل عن أن أبرز ضمان لتحقيق هذه القاعدة هو الاستمرار فى إضعاف مصر اجتماعيا وثقافيا وفكريا ليتم بسبب كل ذلك الاستمرار فى تفتيتها طائفيا، ويتم ضمان دوام ذلك الإضعاف والتفتيت بعدم السماح بأى تجربة ديمقراطية حقيقية يمكن أن تحدث تغييرا جذريا فى مصر لتتبوأ بعد سنوات مكانها الطبيعى فى المنطقة، لأن إسرائيل تعلم أن ذلك إذا حدث، فإن المواجهة مع مصر ستكون حتمية، ولن تكون فى صالح إسرائيل أبدا.

السؤال المهم، الآن وهنا: هل يدور كل هذا الكلام فى ذهن كل من تراهم حاضرين فى الملف الطائفى فى مصر من مسلمين ومسيحيين، سواء كانوا رعاة أو رعايا أو رعاعا؟، والله العظيم ليس عندى شك فى حسن نيتهم جميعا، ليس عندى شك فى أنهم جميعا يعتقدون أنهم يدافعون عن مبادئ عظيمة لا مجال للتنازل عنها، وأنهم مستعدون لأن يموتوا من أجلها لكى يدخلوا الجنة بغير حساب، لكن عندى شكا عظيما فى أن أحدا منهم يفكر جادا فى أن ما يفعله يمكن أن يصب فى مصلحة العدو الحقيقى لمصر، يفكر فى أنه يمكن أن يبنى كنيسة ليهدم وطنا، وأن ما يفعله يمكن أن يعيد سيدة إلى الإسلام لكنه يمكن أن يكون خطوة نحو خروج شعب بأكمله من التاريخ.

ختاماً، مهما تآمرت إسرائيل وخططت وتصورت أنها قادرة على صنع المستقبل، فإن كل تآمرها يمكن أن يسقط أمام إرادة وطنية تدرك أنه لا خلاص للمصريين إلا بدولة مدنية يتساوى فيها الجميع أيا كانت دياناتهم ومعتقداتهم أمام القانون، دولة تدرك أن التدين الحقيقى جوهره العدل والحرية والعقل، وما عدا ذلك فكله أمور يحاسب عليها الله عبيده، لكن المشكلة أن كل ذلك لن يأتى إلا بالديمقراطية الحقيقية القائمة على تداول السلطة والتى لم يخترع الإنسان حتى الآن نظاما أفضل منها لجعل حياته أقل سوءا.

هذا أو الطوفان.

(أتمنى أن تكون قد وجدت فى هذا الكلام القديم الذى نشرته قبل أسابيع من وقوع تفجير كنيسة القديسين إجابة عن أسئلتك الجديدة.. والله من وراء القصد أو هكذا أزعم).

belalfadl@hotmail.com

المصدر جريدة المصرى اليوم

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق