بلال فضل .. رحيل رجل جميل

رحيل رجل جميل
بقلم   بلال فضل    ٢٢/ ٥/ ٢٠١١

ليس فى هذه الدنيا عدل، ولذلك لا تجد الصحف تنشر خبراً بعنوان (رحيل القارئ فلان)، بل تتحيز فى أنباء الرحيل للكُتاب فقط، أما القراء فعليهم أن يدفعوا ثمن الإعلان عن رحيلهم فى صفحات الوفيات، مع أن القارئ لا يقل أهمية للصحيفة عن الكاتب، إن لم يكن الأهم منه بمراحل فهو الذى يصرف على الصحيفة ويسهم فى الصرف على الكاتب ذات نفسه، فضلا عن أنه فى أحيان كثيرة يكون أقدر على الكتابة من الكاتب ذات نفسه أو هو يعتقد ذلك على الأقل، لكنها الدنيا التى إذا أقبلت باض الحمام على الوتد، وإذا أدبرت بال الحمار على الأسد.

بالأمس القريب رحل قارئ عتيد وكاتب مجيد هو الأستاذ محمد عبدالمقصود الموجى، تعرّفت عليه من بعيد لبعيد عندما كنت أحرر باب بريد القراء فى صحيفة (الدستور) عام ١٩٩٥، كانت رسائله تأتينى كل يومين تقريباً مكتوبة بخط أنيق تتحدث عن كل شىء سواء جاءت له سيرة فى العدد الماضى من الصحيفة أو لا، كان يكتب فى كل شىء تقريباً، لكن رسائله التى تتحدث عن الموضوعات الفنية كانت لافتة جداً ومليئة بالمعلومات المدهشة، وكان أغلب رسائله يستحق النشر فوراً، لكننى توقفت عن النشر له بعد أن بدأ قراء كثيرون يغضبون من تكرر نشرى له هو، وقارئ آخر اسمه عوض الفقى كان يمضى رسائله بتوقيع (من رجال التعليم بكفر الشيخ) وكان متخصصا فى اصطياد عثرات وزلات قلم الكاتب الكبير أنيس منصور، فبدأت أتحيز ضدهما وأؤجل نشر رسائلهما، ومع ذلك لم ينقطعا عن الإرسال أبداً حتى أغلقت الدستور، أيامها لم يكن هناك بريد إلكترونى يسهل عملية التواصل مع الصحف، بل كانت كتابة الرسائل لاتزال طقسا مرتبطا بكوباية الشاى والجلوس على المكتب و«وطوا صوتكو شوية ياولاد بابا بيكتب»، أو هكذا كان يبدو لى على الأقل من قراءة كثير من الرسائل التى ظللت أحتفظ لسنوات بآلاف منها فى كراتين أضاعها الزمان لسوء الحظ.

منذ عامين ربما، أصدر الموجى كتاباً جمع فيه الكثير من رسائله التى نشرتها الصحف واختار له عنوانا غاية فى الرقة هو (شعوب تضرب على مؤخراتها)، وكتب لى والحمد لله إهداءً لا علاقة له بعنوان الكتاب، وتحمست لتقديم الموجى ومناقشة ظاهرته الفريدة كقارئ باستضافته فى برنامج (عصير الكتب) بعد أن اتفقت مع المخرج على وضع صفارة على كلمة (مؤخراتها) كلما جاء ذكرها فى الحديث، لكننى اكتشفت أن ظروف الموجى الصحية ربما لن تجعل مجيئه إلينا متاحاً، فقررنا أن نذهب إليه، حيث يقيم فى المنصورة، لكن يد المنية طبطبت عليه واصطحبته إلى جوار اللطيف الحنان منذ أيام، كما أخبرنى الصديق الكاتب محمد هشام عبية، الذى كتب لى عنه هذه السطور التى أتشرف بنشرها تحيةً لهذا الرجل الجميل، وأسألكم قراءة الفاتحة له قبل قراءتها وبعد قراءتها أيضاً.

(أغلب الظن أن الكبير محمود السعدنى لو كان قابل «محمد عبدالمقصود الموجى» فى هذه الدنيا «الظالمة» كان سيضعه ضمن قائمة «الظرفاء» الذين كتب فيهم كتابا علّامة ومرجعية، كيف لا وقصة حياة «الموجى» الذى رحل فجأة قبل أيام تتشابه إلى حد ما مع حياة «أعظم الظرفاء» عبدالله النديم و«أتعس الظرفاء» مجدى فهمى، الذين خلدهم السعدنى فى رائعته «الظرفاء»، فالثلاثة ولدوا أو عاشوا بالمنصورة، والثلاثة ظل البؤس والظلم يطاردهم حتى الممات، والثلاثة حاولوا النبش فى الدنيا فخربشوها وخربشتهم، لكنها أخذت منهم أكثر بكثير مما أعطته لهم، حتى إنهم جميعاً ماتوا فى سن مبكرة.

مخضرمو صفحات بريد القراء فى كل الصحف المصرية يعرفون حتما اسم محمد عبدالمقصود الموجى، صاحب القلم الرشيق والكلمة اللاذعة والحس الساخر الفريد، لكن ربما هؤلاء المخضرمون لا يعرفون أن الموجى الذى ظل يراسل الصحف بدأب ومهنية واحتراف مبهر لأكثر من ربع قرن، كان لا يستطيع التحرك من فراشه الموجود فى شقة أكلتها الرطوبة فى عمارة تقاوم قرار الإزالة منذ عقد من الزمن فى شارع الثانوية بالمنصورة، إلا عبر مساعدة أحد «مريديه»، وهم كثر، فقد تعرض الموجى لحادثة مروعة فى صدر شبابه جعلته «قعيداً»، منحنى الظهر، لكن الله عوضه عن ذلك بعيون لامعة ودماغ سينمائية موسوعية، وقلم يلسع ويسيل دموع الضحك.

من كان يذهب لمنزل الموجى كان يعرف حتما معنى كلمة «المولد»، بشر من كل صنف ولون دائما موجودون فى المنزل فى أى وقت، هناك من يطبخ، وهناك من يغسل له ملابسه، وهناك من يعد له الشاى، ورابع يعزف له العود، وأخرى تقطع البطيخ، وهو يعيش متوجا بحب الناس، وفى يده الريموت كنترول، وبجواره موبايل صغير وقلم وورقة بيضاء، كان هذا هو عالمه الصغير الفريد الذى أخرج كل ما أبدعه، منذ أن شكل ثنائيا فريدا مع الفنان الكبير مصطفى حسين، فى الثمانينيات على صدر صفحات «الأخبار»، ليكتب الموجى الفكرة ويرسم حسين، فى ثنائية لم تحدث من قبل باستثناء مع الساخر العظيم أحمد رجب بالقطع. (أتمنى أن يعيد الفنان الكبير مصطفى حسين نشر عدد من هذه الرسوم الآن تحية للراحل الموجى).

لكن البؤس الذى كان يولد منه اللطافة والخفة، لم يقف عند حدود إعاقة الجسد، وإنما وصل إلى ذروته بعدما تزوج وسافرت زوجته إلى إيطاليا قبل سنوات، وهناك توفيت فى حادث عارض، بعدما أنجبت طفلته الوحيدة، ويظل الرجل يعافر لما يقرب من ٨ سنوات مع السلطات الإيطالية، ليستعيد ابنته، التى لم يرها بالأساس منذ مولدها، وحتى رحيله فشل فى رؤيتها.

كان الموجى «ماكينة أفكار»، وفى آخر اتصال تليفونى لى معه قبل رحيله بأسبوعين تقريبا، كان يتحدث بحماس شديد لقناة «التحرير» الوليدة، وكيف أن لديه فكرة مغايرة لبرنامج عن السينما التى كانت عشقه الأول فى هذا الكون، حتى إنه كتب عدة سيناريوهات غير مكتملة، لكن عدم قدرته على الانتقال من المنصورة للقاهرة كان سببا فى إصابته بالإحباط الذى كان - ويا للعجب - صديقا لحبه للحياة ولرغبته فى الاستمتاع بها حتى النخاع. كان ظريفا وبائسا - رحمه الله - حتى إنه عندما أصبح يحرر زاوية صحفية يوميا فى جريدة «الدستور»- المأسوف على شبابها- كمراقب فطن وذكى ومرح لبرامج التوك شو اليومية، وقد أعجب بكم الاتصالات التى تأتيه من مشاهدين ومقدمين لهذه البرامج الشهيرة. دفن السيد البدوى أحلام الرجل فى ثلاجة الموتى عندما دفن (الدستور) فى تلك «البيعة الشهيرة» فى أكتوبر الماضى، ولم يكتب الموجى حينها سوى ٥ أيام فقط، حينها لم يعلق على ما حدث سوى بأنه «أمر طبيعى ولابد أن يحدث له»!

رحمه الله.. حتى عندما رحل فعلها فجأة وهو لم يبلغ الخمسين بعد، لم يبلغ أحداً من محبيه بنيته هذه، وكأنه يفعل فينا مقلب من مقالبه.. كده برضه يا أستاذ محمد؟!).

belalfadl@hotmail.com

المصدر جريدة المصرى اليوم

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق