فاروق جويدة .. حتى يهدأ الشارع المصرى

بقلم: فاروق جويدة
29 مايو 2011 11:27:18 ص بتوقيت القاهرة

حتى يهدأ الشارع المصرى

فى الشارع المصرى الآن أشياء كثيرة تدعو للقلق والخوف والانزعاج.. بعد أربعة شهور على قيام الثورة ورحيل النظام السابق وإيداع عدد من رموزه فى السجون مازالت هناك قضايا كثيرة معلقة..

البعض يتهم الشارع بأنه يعانى حالة انفلات شديدة فى العمل والإنتاج والفوضى والتظاهر بلا أسباب، بينما يرى البعض الآخر أن ما يحدث فى الشارع هو انعكاس لما حدث فى مؤسسات الدولة حيث لا حسم ولا انضباط ولا مواجهة حقيقية لاحتياجات ومطالب هذا الشارع..

لم يكن رحيل النظام هو المطلب الوحيد للشارع المصرى ولم يكن السجن لرموزه هو الهدف والغاية ولكن الثورة حملت أفكارا ومطالب وأحلاما أكبر من ذلك كله.. لن يستطيع أحد أن يحقق هذه المطالب خلال أيام أو شهور ولكن المطلوب أن يشعر هذا المواطن أن مؤسسات الدولة جادة فى تحمل مسئولياتها..

وأن هذه المؤسسات ليست حبيسة فكر قديم وأساليب بالية فى العمل واتخاذ القرار.. هناك مواقف كثيرة لا تطمئن حتى الآن هذا الشارع الغاضب الثائر ولا توجد حتى مجرد نوايا طيبة لإراحة النفوس وتجاوز المحنة أن المجلس العسكرى لن يتحمل المسئولية وحده ولكن كل طوائف الشعب والحكومة ومؤسسات الدولة والنخبة ورجال الدين كل هؤلاء مطالبون بالقيام بأدوارهم من أجل مستقبل أفضل وحياة أكثر أمنا واستقرارا ورخاء.

هناك تضارب شديد يصل إلى درجة التناقض تجاه الموقف من التحقيقات القضائية مع رءوس النظام الراحل وهى تتفاوت ما بين الاتهامات الصارخة جدا والرغبات التى يراها البعض لتسويات مالية ومصالحات ومحاولات للعفو والغفران..

وهنا تبدو المسافة كبيرة جدا بين من يطالبون برأس النظام ومن يرغبون فى الصفح والعفو والغفران.

هنا يحتار المواطن العادى وهو يفكر بعقله ما بين بلايين الجنيهات الهاربة وضرورة الحساب وما بين اعتبارات العمر والمنصب والجوانب الإنسانية فى منطق العفو.

الغريب فى الأمر فيما يبدو أن المسئولين فى الدولة أنفسهم وليس الشارع وحده تحركهم مشاعر متناقضة ما بين العفو والقصاص والسبب فى ذلك كله أن الأمور حتى الآن تبدو معلقة ولم تصل إلى حسم حقيقى سواء كان إدانة أم قصاصا.. وهنا تدخل أيضا مسيرة أجهزة السلطة القضائية التى عجزت عن أن تحسم أشياء كثيرة سواء فى ترتيبات السجن وأماكنه وظروفه بجانب الحالة الصحية وما تفرضه من ضرورات..

خصوصا أن البعض منها قد بالغ كثيرا فى اتخاذ هذه الترتيبات وهناك أيضا الإجراءات التى تتم فى المحاكم وقرارات عمليات التنحى أو تغيير الدوائر أو تلاعب المحامين كل هذه الأشياء أصابت الشارع المصرى بحالة من الخوف والقلق والإحباط.

لا يستطيع أحد أن يطالب القضاء بسرعة الإجراءات ولكن المطلوب فعلا أن يشعر الشارع المصرى وأن يتأكد أن مصيره ومستقبله وماله الضائع فى حصن أمين من حصون العدالة.

منذ أكثر من شهرين أعلنت وزارة العدل أن هناك لجنة قضائية على أعلى مستوى سوف تسافر إلى دول أوروبا لبحث إمكانية استرجاع الأموال المهربة فى حسابات رموز النظام السابق.. وللأسف الشديد أن اللجنة لم تسافر وأن هذا الوقت الضائع ليس فى مصلحة مصر وأن هناك حشودا ضخمة قامت بتهريب هذه الأموال وأن رجوعها يبدو الآن حلما مستحيلا..

وما بين تباطؤ شديد فى الإجراءات والقرارات والمواقف يزداد توتر الشارع المصرى الحائر الآن بين ثورة لم تكتمل ورءوس نظام مازالت لها أياد مؤثرة فى مواقع كثيرة.

لا نستطيع أن نتجاهل الدور السلبى للإعلام المصرى فى الفترة الحالية لقد أساء كثيرا للثورة وأساء كثيرا لسلطة القرار وافتقد الحكمة فى حالات كثيرة عجز خلالها أن يمثل الضمير الحى للشارع المصرى.

والشىء المؤسف أن مؤسسات الدولة تلقى مسئوليات الفوضى على بعضها البعض.. الهيئات القضائية غارقة فى تقارير رقابية رهيبة فى عددها ومكوناتها وتأثيرها فى الشارع المصرى.. أمام المستشار عبدالمجيد محمود النائب العام آلاف الشكاوى وآلاف التقارير الأمنية والاقتصادية من أجهزة الدولة والرجل حائر بين الشارع ومؤسسات الدولة وضمير رجل القضاء ولكنه يؤكد دائما أنه لن يسمع إلا صوت ضميره.

جهاز الكسب غير المشروع تلقى آلاف التقارير عن ثروات رهيبة لرموز النظام من الأجهزة الرقابية ولكن هناك اتهامات لهذه الأجهزة بأنها بالغت فى بعض التقديرات وهنا يكون السؤال هل بالغت بالفعل أم أن هناك من يحاول إخفاء الحقائق؟.. وما بين التقارير الرقابية والإجراءات القانونية لعبت الصحافة والإعلام فى مصر دورا خطيرا فى شحن المواطنين وساد اعتقاد بأن البلايين قادمة وأن على كل مواطن مصرى أن يحجز دوره فى طابور طويل ليتسلم فى احتفالية كبيرة شيكا بحقه فى الأموال العائدة.

لقد بالغت الصحافة فى النشر وبالغت أجهزة الرقابة فى الرصد ووقفت الهيئات القضائية حائرة بين شارع غاضب لن يهدأ إلا بالقصاص وإعلام هو أحوج ما يكون للرشد وحقائق غائبة لم يصل إليها أحد حتى الآن حول حجم الأموال الهاربة وإمكانية عودتها.

فى صدارة هذا المشهد تبدو صورة الشهداء الذين ضحوا فى سبيل هذا الوطن وأصبحوا الآن على هامش الأحداث وكأنهم قناديل أضاءت وسرعان ما خبا ضوؤها.. فلا الشعب صاحب الثورة كرم أبناءه.. ولا الحكومة صرفت لهم المعاشات والتعويضات ولا المجتمع المدنى شارك فى علاج المصابين منهم..

لقد أسرع الجميع إلى الغنائم سواء كانت مادية أو معنوية وأصبح السباق محموما والكل يحاول أن يخطف الثورة وتفاوت حجم الغنائم ما بين مكاسب سياسية هرعت إليها التيارات الإسلامية لتعطى للثورة لونا وتجاهلت فى سبيل ذلك كل الحسابات الأمنية والدينية والوطنية.. وهناك من حاول أن يتصدر المشهد إعلاميا ويتاجر فيه حتى ولو كان ذلك على حساب دم الشهداء، ثم إن هناك من قدم نفسه للغرب كصاحب لهذه الثورة وأخذ الثمن.. إن معظم الوجوه التى تتاجر الآن بالثورة كانت بعيدة تماما عنها.. وفى زحمة الغنائم يبدو مشهد الشهداء الأبرار حزينا داميا ولا شك أن هذا المشهد يلقى على الشارع المصرى هموما كثيرة أمام آلاف العائلات والأسر التى فقدت شبابها وحتى الآن لم تجد يدا تواسيها.

ما بين القضاء والإعلام والشهداء وخاطفى الثورة تبدو الآن صورة الأمن فى مصر وهى تهز من الأعماق صلابة واستقرار هذا الوطن.. انتشرت الجرائم فى كل أرجاء المحروسة.. وتجرأت مواكب البلطجية على الدولة وأجهزة الأمن..

البعض يقول إنها فلول الحزب الوطنى والبعض يرى أنها خرجت من العشوائيات ومنتجعات الخنازير.. ولكن المؤكد أن هناك أعدادا كبيرة من رجال الأمن الهاربين من الخدمة ومواكب البطالة التى تركها النظام الراحل فى صورة ألغام يمكن أن تنفجر فى أية لحظة.. وقد اقترحت على المسئولين فى الحكومة تجنيد خريجى كليات الحقوق وهم بالآلاف فى قوات الشرطة وتشجيع العمل التطوعى فى حماية المواطنين كما حدث فى أثناء الثورة وضرورة وضع أولوية خاصة لمشكلة البطالة لأن ملايين العاطلين فى الشارع حيث لا عمل ولا أمل ولا مستقبل سوف يتحولون مع الوقت وغياب الأمن والشحن الإعلامى إلى قنابل موقوتة.

لاشك أن كل هذه القضايا تترك واقعا اقتصاديا مرتبكا وضائعا فى ظل مجتمع لا يعمل ولا ينتج.. إن هناك ارتباطا وثيق بين هذه السلسلة من الأزمات.
فى ظل غياب الأمن لن تأتى السياحة ولن تسير مواكب العمل.. وفى ظل إعلام يفتقد المسئولية ويشعل الحرائق سوف تزداد مشكلات الأمن وعدم الاستقرار.. وفى ظل إجراءات قضائية متراخية سوف يزداد الشارع توترا وعصبية.

فى ظل هذا الارتباك الشديد والفوضى الأمنية فى الشارع المصرى تبدو صورة القوى السياسية غائبة تماما عن إيقاع الشارع المصرى لأن كل تيار يحاول ترتيب أوراقه وبرامجه وأهدافه.. إن التيار الإسلامى يحشد كل قواه لكى يرتب أوضاعه وفى مقدمة هذا التيار الإخوان المسلمون.. وهنا تبدو تجمعات أخرى أكثر تشددا وظهرت معها بقوة أحداث الفتنة الطائفية التى برزت معها بقوة الآن حالة تشدد دينى غير مسبوقة بين المسلمين والأقباط..
وفى ظل حلول غريبة تلجأ مؤسسات الدولة للجلسات العرفية والمشايخ والقساوسة وقد تلجأ إلى حفلات الزار..

فى ظل الفوضى والانفلات يصبح الحسم ممثلا فى هيبة الدولة هو المنقذ والملاذ خصوصا أن هناك أطراف كثيرة تحاول أن تكسب أرضا على حساب مؤسسات الدولة.. إن الصورة الآن تبدو على النحو التالى:

●قضاء حائر بين نظام فاسد وتلال من القضايا أمام العدالة وشارع مشحون يريد القصاص السريع فلا تهاون ولا تأجيل.

●إعلام متخبط يسعى إلى السبق
أو التضليل أو التشهير والإدانة ويفتقد الرؤى الوطنية السليمة الحريصة على مصالح الوطن فى هذا الوقت العصيب.

●أمن لا يستطيع فرض هيبة الدولة ويفتح كل الأبواب لفلول النظام السابق والبلطجية ومواكب البطالة والظروف الاقتصادية الصعبة.

●وضع اقتصادى مرتبك للغاية أمام مجتمع لا ينتج واستثمارات تسعى للهروب ورءوس أموال مرتعشة تطلب الأمان من الداخل والخارج.

●إن هذه القضايا جميعها ليست بعيدة عن بعضها البعض.. حين يتوافر الأمن والاستقرار سوف ينطلق الاقتصاد وإذا توافرت العدالة سوف يهدأ الشارع وإذا أفاق الإعلام من غفوته التى طالت سوف نجد ضمائر أكثر حرصا على مستقبل هذا الوطن.

والخلاصة عندى أن يكون المجلس العسكرى أكثر حسما فى قضايا الأمن وما يتعلق منها بالفتنة الطائفية.. وأن تكون الحكومة أكثر حسما فى قضايا الشهداء والمصابين والعاطلين فى الشوارع خصوصا أبناء الطبقات الفقيرة الذين عانوا كثيرًا وأن تسعى بكل الوسائل لتوفير حياة كريمة لهم..

والطرف الآخر هو الشارع المصرى بأن يعطى الفرصة لمؤسسات الدولة لأن تواجه أعباء المرحلة وأن يساعدها على ذلك خصوصا أننا أمام واقع جديد يفرض علينا التزامات ضخمة ويضعنا جميعا أمام تحديات كثيرة إما أن نكون وإما ألا نكون والحل مزيد من الإنتاج وليس مزيدا من المظاهرات.. تأتى بعد ذلك مسئولية القضاء المصرى العريق وأنا على يقين بأنه لن يظلم بريئا ولن يفرط فى حقوق شعبه المظلوم طوال ثلاثين عاما.

المصدر جريدة الشروق

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق