بقلم: فاروق جويدة
فى الشهور الأخيرة ومنذ قيام ثورة يناير ونحن نكتشف كل يوم خسارتنا الفادحة فى هذه النخبة.. يحاول الإنسان أن يبحث عن آخر ما بقى منها ونكتشف أنها صارت أطلالا حيث لا تأثير ولا دور ولا قيادة.
إن غياب النخبة المصرية الآن هو أبرز الجوانب السلبية فى حياة المصريين فقد كانت هذه النخبة حصاد فترات تاريخية وصلت إلى قمتها مع مرحلة الليبرالية المصرية التى سبقت ثورة يوليو.. كانت فترة الأربعينيات هى أخصب فترات صعود هذه الطبقة والتى انقسمت ما بين أثرياء مصر من أصحاب رءوس الأموال والأراضى والأعيان والمثقفين والمهنيين.. كانت النخبة هى حصاد الطبقة المتوسطة التى شكلت المجتمع المصرى بكل جوانب التميز والتفوق فيه.
هذه النخبة هى التى قادت عمليات التغيير الاجتماعى فى مصر ابتداء بجماهير الفن الراقى فى الفنون والفكر والآداب وانتهاء بمستوى التعليم وصعود هذه النخبة إلى قمة المجتمع لتزاحم الأسرة العلوية الحاكمة فى الأذواق والرقى ومعها عدد كبير من أثرياء العائلات والأسر المرموقة.
فى هذا المناخ شهدت مصر نهضة صناعية قادها طلعت حرب ورفاقه.. وشهدت نهضة فنية رائعة.. وشهدت أيضا صحوة ثقافية وصلت بالثقافة المصرية إلى آفاق رحبة من الوعى والاستنارة.
هذه النخبة أيضا هى التى شكلت الأحزاب السياسية ومهما كانت جوانب النقد التى توجه لهذه الأحزاب إلا أنها وضعت أساسا واضحا للديمقراطية فى مصر ما قبل ثورة يوليو.. وعلى كتف هذه الأحزاب كانت مواكب التحرر التى عرفها المصريون وبدأت بقضايا التحرير ومواجهة الاستعمار الانجليزى ومكاسب كثيرة حققها نضال الشعب المصرى من أجل استقلال أرضه وإرادته.. وفى هذا السياق أيضا كانت حركة تحرير المرأة ومجانية التعليم والتوسع فى إنشاء الجامعات بعد افتتاح جامعة القاهرة حيث أقيمت جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس.. وفى هذا السياق أيضا كانت عمليات إنشاء واستكمال مؤسسات الدولة المصرية بأنشطتها المختلفة وفى مقدمتها البنوك وأجهزة الخدمات والمرافق وهى من ركائز ومقومات الدولة الحديثة.
فى هذا الوقت كان هناك وعى سياسى وفكرى غير مسبوق تجسد فى تواجد الأحزاب السياسية فى الشارع مع وعى ثقافى وفنى أكدت وجوده رموز ثقافية وفنية غاية فى القدرات والمواهب.. وكما نجحت الأحزاب السياسية فى التواصل مع الشارع المصرى كان للفن دوره فى الارتقاء بأذواق الناس وهنا تقدمت وتفوقت فنون مثل السينما والمسرح والغناء والفن التشكيلى والموسيقى.. كما ظهر إنتاج أدبى رفيع فى الشعر والمسرح والقصة والرواية.
كل هذه المجالات قامت على رصيد طويل قدمته النخبة المصرية واحتلت مكانتها دورا وتأثيرا وقيمة.
ولا شك أنه من الأمانة أن نعترف أن وجود الجاليات الأجنبية فى مصر قبل الثورة كان له دور كبير فى حياة هذه النخبة وفى تطور المجتمع المصرى بصورة عامة.
وعندما قامت ثورة يوليو أطاحت بجزء كبير من هذه الإنجازات وانعكس ذلك فى تصفية الأحزاب السياسية وعمليات التأميم والحراسة والمصادرة والاستيلاء على الأراضى وتقييد الحريات السياسية.. ورغم هذه الإجراءات الصارمة بقيت هذه النخبة تقاوم وبقيت الطبقة المتوسطة تمثل العمود الفقرى فى المجتمع المصرى.
ولكن الأحوال تغيرت والأمور ساءت..
إن ما أصاب النخبة المصرية فى الثلاثين عاما الماضية قد أجهض دورها تماما وتحولت إلى شراذم هنا وهناك وكان قيام ثورة 25 يناير أكبر تأكيد على غياب هذه النخبة وتراجع دورها ومسئوليتها.
لا أعتقد أن أحدا من الرموز التقليدية فى هذه النخبة كان صاحب دور فى ثورة يناير خاصة أن ما بقى منها كان قد تشتت ما بين حظيرة الدولة وعطايا رجال الأعمال وأبناء الطبقة الجديدة فى مصر خلال ثلاثين عاما.
انعكس الفساد السياسى ممثلا فى الحزب الوطنى والحكومة على دور هذه النخبة حين شارك العديد من رموزها فى انتخابات مزورة والحصول على الأراضى وتجارة الآثار ونهب المال العام.. وقد سقطت أعداد كبيرة من هذه النخبة أمام إغراءات كثيرة لا تقاوم قدمتها السلطة بسخاء شديد لهؤلاء.
انعكس الفساد الاقتصادى فى أدوار مشبوهة فى إدارة شئون الدولة بكل مؤسساتها من خلال هذه النخبة.. وتعرض المال العام وهو ملك للشعب كل الشعب لعمليات نهب منظمة شاركت فيها ثلاثة أطراف رئيسية هم رجال الأعمال ورجال السلطة ومن بقى من رموز النخبة.. وقد تجسد ذلك كله فى مؤسسات اقتصادية ارتدت ثوبا حضاريا ثقافيا مثل الجامعات والمؤسسات التعليمية ومؤسسات التكنولوجيا الحديثة فى المعاهد والمدارس.. فى هذه المجالات ظهرت جماعات غريبة استخدمت كل وسائل الثقافة والتعليم والتكنولوجيا لجمع أكبر قسط من الأموال.
على المستوى الاجتماعى غاب دور النخبة الذى اتسم دائما بكل مظاهر التحضر والرقى وارتمى من بقى من رموز هذه النخبة فى مواكب رجال الأعمال وأثرياء الانفتاح والخصخصة وسماسرة نهب المال العام.
وعندما قامت ثورة 25 يناير لم يشهد ميدان التحرير وبقية الميادين التى امتلأت عن آخرها بمئات الآلاف من المواطنين أحدا من رموز النخبة كانت قد انقسمت على نفسها تماما وكبرت وترهلت ما بين دكاكين السلطة وعطايا رجال الأعمال وحظيرة الدولة الثقافية.
وربما كان هذا هو السر فى اختفاء هذه النخبة وإن كان البعض منهم قد حاول ركوب الثورة بعد أن تكشفت المواقف ورحل رأس النظام.. خرج عدد من رموز النخبة من بين أطلال الخرائب الفكرية التى شيدوها ليتحدث عن شباب الثورة ويقدم الولاء للقادمين الجدد.. ولكن شباب الثورة الواعى كان قد اكتشف حقيقة هؤلاء واستطاع أن يلقى بهم بعيدا وهذا ما حدث فى مؤتمر الحوار الوطنى والحوار القومى حين طلب شباب الثورة إبعاد رموز الحزب الوطنى عن هذه المؤتمرات.
لقد أدرك شباب مصر بوعيه التاريخى الأدوار القبيحة التى قامت بها النخبة خلال ثلاثين عاما حين تخلت عن مسئولياتها على كل المستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا.
ولا شك أن ثورة 25 يناير افتقدت هذه النخبة وبقدر ما كان حضور هذه النخبة واضحا وصريحا ومؤثرا فى دعم ثورة يوليو رغم انتهاك مصالحها فإن ما بقى من هذه النخبة لم يظهر على الإطلاق فى ميدان التحرير لقد ظهر فقط فى بعض فلول النظام السابق وبقايا حزبه المخلوع وحاولت أن ترتدى ثياب الثورة.. والأخطر من ذلك كله أن هناك حالة انقسام شديدة فى صفوف هذه النخبة ما بين المتطرفين دينيا والمتخلفين فكريا وعقليا وأدعياء الليبرالية والعلمانية، حيث يدور الآن صراع رهيب بين كل هذه القوى والفصائل.. والغريب فى الأمر أن هؤلاء جميعا بعيدون تماما عن نبض الشارع المصرى بكل طوائفه.. أين هذه النخبة من آلام ومعاناة الفلاح المصرى.. وأين كان هؤلاء والعمال يطردون كل يوم من مصانعهم أمام مقصلة الخصخصة وأشباح الانفتاح ونهب المال العام.. أين كانت هذه النخبة من الانتخابات المزورة وتشوية إرادة الشعب أين كانوا من الزواج الباطل وكانوا شركاء فيه بين السلطة ورأس المال.
إن الذى يدفع ثمن ذلك كله هو الشعب المصرى الآن بعد نجاح ثورته.. إن بقايا هذه النخبة تحاول اختطاف الثورة من شبابها.. إنهم لا يخجلون من إعلان ولائهم للثورة رغم أن الجميع يعلم ولاءات كثيرة أطلقوها خلال ثلاثين عاما لحكام مستبدين وأنظمة فاشية.
إن هذه النخبة وما بقى منها تحاول ركوب الثورة وحين تتكشف أهدافها تنضم إلى فلول النظام السابق لتشارك فى هدم هذه الثورة.. ولاشك أن غياب هذه النخبة قد ترك فراغا رهيبا فى الشارع المصرى على كل المستويات بل إن دورها المشبوه فى إفساد منظومة القيم فى المجتمع قد ترك آثارا سيئة لعل أخطرها تلك الانقسامات الحادة التى اجتاحت حياة المصريين.. كانت النخبة المصرية من أهم مدارس الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد دون النظر إلى دين أو جنس أو لغة.. وكان دورها الحضارى يحمل كل الشواهد عن مجتمع متحضر عرف الفنون والآداب وأبدع فيها إبداعا جميلا.
كانت خسائر مصر من غياب النخبة فى أكثر من مجال ابتداء بالسياسة والأحزاب ودرجة الوعى وانتهاء بالفنون التى تراجعت وانهارت أمام موجات من الإسفاف والتخلف أصابت وخربت الوجدان المصرى وكان من ضحايا غياب النخبة.
إن رموز هذه النخبة هى التى وضعت فى الماضى أسس التفاهم والحوار بين أبناء الوطن الواحد وإن اختلفت العقائد والأديان وقد شجع على ذلك شواهد كثيرة للتطرف الدينى بين المسلمين والأقباط وكانت النخبة دائما هى سياج الأمن والأمان للإنسان المصرى ضد هذه الأمراض.
إن مصر الآن أحوج ما تكون لهذه النخبة فى ثقافتها وتحضرها ووعيها وتدينها الوسطى ورقى أذواقها وقبل هذا كله هى فى حاجة إلى هذه النخبة فى الحوار السياسى والفكرى وقد انحدر كثيرا حتى وصل إلى أحط الكلمات.
هل يمكن أن تنجب لنا ثورة 25 يناير نخبة جديدة لا تحمل أمراض نخبة رحلت واختفت وأصبحت الآن جزءا من ذكرياتنا.
المصدر جريدة الشروق
5 يونيو 2011 09:27:10 ص بتوقيت القاهرة
شباب الثورة وإفلاس النخبة
كانت الخطيئة الكبرى التى ارتكبها النظام السابق هى تجريف العقل المصرى والقضاء على النخبة المصرية الواعية والمثقفة والمتحضرة والمستنيرة.. وإذا كانت الخسائر فى الأموال شيئا رهيبا فإن خسائر العقول لا تقدر بثمن.. استطاع النظام السابق أن يتخلص من أهم مميزات وقدرات الإنسان المصرى وهى الوعى والفكر والثقافة.فى السنوات العجاف تلاشى دور النخبة الثقافية فى مصر وانقسمت إلى طوائف وفصائل البعض منها انضم طواعية إلى حظيرة الدولة والبعض الآخر دخل فى صفقات رجال الأعمال وهناك من رقص على الحبال ما بين إرضاء السلطة ومحاولة استقطاب الشارع المصرى.فى الشهور الأخيرة ومنذ قيام ثورة يناير ونحن نكتشف كل يوم خسارتنا الفادحة فى هذه النخبة.. يحاول الإنسان أن يبحث عن آخر ما بقى منها ونكتشف أنها صارت أطلالا حيث لا تأثير ولا دور ولا قيادة.
إن غياب النخبة المصرية الآن هو أبرز الجوانب السلبية فى حياة المصريين فقد كانت هذه النخبة حصاد فترات تاريخية وصلت إلى قمتها مع مرحلة الليبرالية المصرية التى سبقت ثورة يوليو.. كانت فترة الأربعينيات هى أخصب فترات صعود هذه الطبقة والتى انقسمت ما بين أثرياء مصر من أصحاب رءوس الأموال والأراضى والأعيان والمثقفين والمهنيين.. كانت النخبة هى حصاد الطبقة المتوسطة التى شكلت المجتمع المصرى بكل جوانب التميز والتفوق فيه.
هذه النخبة هى التى قادت عمليات التغيير الاجتماعى فى مصر ابتداء بجماهير الفن الراقى فى الفنون والفكر والآداب وانتهاء بمستوى التعليم وصعود هذه النخبة إلى قمة المجتمع لتزاحم الأسرة العلوية الحاكمة فى الأذواق والرقى ومعها عدد كبير من أثرياء العائلات والأسر المرموقة.
فى هذا المناخ شهدت مصر نهضة صناعية قادها طلعت حرب ورفاقه.. وشهدت نهضة فنية رائعة.. وشهدت أيضا صحوة ثقافية وصلت بالثقافة المصرية إلى آفاق رحبة من الوعى والاستنارة.
هذه النخبة أيضا هى التى شكلت الأحزاب السياسية ومهما كانت جوانب النقد التى توجه لهذه الأحزاب إلا أنها وضعت أساسا واضحا للديمقراطية فى مصر ما قبل ثورة يوليو.. وعلى كتف هذه الأحزاب كانت مواكب التحرر التى عرفها المصريون وبدأت بقضايا التحرير ومواجهة الاستعمار الانجليزى ومكاسب كثيرة حققها نضال الشعب المصرى من أجل استقلال أرضه وإرادته.. وفى هذا السياق أيضا كانت حركة تحرير المرأة ومجانية التعليم والتوسع فى إنشاء الجامعات بعد افتتاح جامعة القاهرة حيث أقيمت جامعة الإسكندرية وجامعة عين شمس.. وفى هذا السياق أيضا كانت عمليات إنشاء واستكمال مؤسسات الدولة المصرية بأنشطتها المختلفة وفى مقدمتها البنوك وأجهزة الخدمات والمرافق وهى من ركائز ومقومات الدولة الحديثة.
فى هذا الوقت كان هناك وعى سياسى وفكرى غير مسبوق تجسد فى تواجد الأحزاب السياسية فى الشارع مع وعى ثقافى وفنى أكدت وجوده رموز ثقافية وفنية غاية فى القدرات والمواهب.. وكما نجحت الأحزاب السياسية فى التواصل مع الشارع المصرى كان للفن دوره فى الارتقاء بأذواق الناس وهنا تقدمت وتفوقت فنون مثل السينما والمسرح والغناء والفن التشكيلى والموسيقى.. كما ظهر إنتاج أدبى رفيع فى الشعر والمسرح والقصة والرواية.
كل هذه المجالات قامت على رصيد طويل قدمته النخبة المصرية واحتلت مكانتها دورا وتأثيرا وقيمة.
ولا شك أنه من الأمانة أن نعترف أن وجود الجاليات الأجنبية فى مصر قبل الثورة كان له دور كبير فى حياة هذه النخبة وفى تطور المجتمع المصرى بصورة عامة.
وعندما قامت ثورة يوليو أطاحت بجزء كبير من هذه الإنجازات وانعكس ذلك فى تصفية الأحزاب السياسية وعمليات التأميم والحراسة والمصادرة والاستيلاء على الأراضى وتقييد الحريات السياسية.. ورغم هذه الإجراءات الصارمة بقيت هذه النخبة تقاوم وبقيت الطبقة المتوسطة تمثل العمود الفقرى فى المجتمع المصرى.
ولكن الأحوال تغيرت والأمور ساءت..
إن ما أصاب النخبة المصرية فى الثلاثين عاما الماضية قد أجهض دورها تماما وتحولت إلى شراذم هنا وهناك وكان قيام ثورة 25 يناير أكبر تأكيد على غياب هذه النخبة وتراجع دورها ومسئوليتها.
لا أعتقد أن أحدا من الرموز التقليدية فى هذه النخبة كان صاحب دور فى ثورة يناير خاصة أن ما بقى منها كان قد تشتت ما بين حظيرة الدولة وعطايا رجال الأعمال وأبناء الطبقة الجديدة فى مصر خلال ثلاثين عاما.
انعكس الفساد السياسى ممثلا فى الحزب الوطنى والحكومة على دور هذه النخبة حين شارك العديد من رموزها فى انتخابات مزورة والحصول على الأراضى وتجارة الآثار ونهب المال العام.. وقد سقطت أعداد كبيرة من هذه النخبة أمام إغراءات كثيرة لا تقاوم قدمتها السلطة بسخاء شديد لهؤلاء.
انعكس الفساد الاقتصادى فى أدوار مشبوهة فى إدارة شئون الدولة بكل مؤسساتها من خلال هذه النخبة.. وتعرض المال العام وهو ملك للشعب كل الشعب لعمليات نهب منظمة شاركت فيها ثلاثة أطراف رئيسية هم رجال الأعمال ورجال السلطة ومن بقى من رموز النخبة.. وقد تجسد ذلك كله فى مؤسسات اقتصادية ارتدت ثوبا حضاريا ثقافيا مثل الجامعات والمؤسسات التعليمية ومؤسسات التكنولوجيا الحديثة فى المعاهد والمدارس.. فى هذه المجالات ظهرت جماعات غريبة استخدمت كل وسائل الثقافة والتعليم والتكنولوجيا لجمع أكبر قسط من الأموال.
على المستوى الاجتماعى غاب دور النخبة الذى اتسم دائما بكل مظاهر التحضر والرقى وارتمى من بقى من رموز هذه النخبة فى مواكب رجال الأعمال وأثرياء الانفتاح والخصخصة وسماسرة نهب المال العام.
وعندما قامت ثورة 25 يناير لم يشهد ميدان التحرير وبقية الميادين التى امتلأت عن آخرها بمئات الآلاف من المواطنين أحدا من رموز النخبة كانت قد انقسمت على نفسها تماما وكبرت وترهلت ما بين دكاكين السلطة وعطايا رجال الأعمال وحظيرة الدولة الثقافية.
وربما كان هذا هو السر فى اختفاء هذه النخبة وإن كان البعض منهم قد حاول ركوب الثورة بعد أن تكشفت المواقف ورحل رأس النظام.. خرج عدد من رموز النخبة من بين أطلال الخرائب الفكرية التى شيدوها ليتحدث عن شباب الثورة ويقدم الولاء للقادمين الجدد.. ولكن شباب الثورة الواعى كان قد اكتشف حقيقة هؤلاء واستطاع أن يلقى بهم بعيدا وهذا ما حدث فى مؤتمر الحوار الوطنى والحوار القومى حين طلب شباب الثورة إبعاد رموز الحزب الوطنى عن هذه المؤتمرات.
لقد أدرك شباب مصر بوعيه التاريخى الأدوار القبيحة التى قامت بها النخبة خلال ثلاثين عاما حين تخلت عن مسئولياتها على كل المستويات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا.
ولا شك أن ثورة 25 يناير افتقدت هذه النخبة وبقدر ما كان حضور هذه النخبة واضحا وصريحا ومؤثرا فى دعم ثورة يوليو رغم انتهاك مصالحها فإن ما بقى من هذه النخبة لم يظهر على الإطلاق فى ميدان التحرير لقد ظهر فقط فى بعض فلول النظام السابق وبقايا حزبه المخلوع وحاولت أن ترتدى ثياب الثورة.. والأخطر من ذلك كله أن هناك حالة انقسام شديدة فى صفوف هذه النخبة ما بين المتطرفين دينيا والمتخلفين فكريا وعقليا وأدعياء الليبرالية والعلمانية، حيث يدور الآن صراع رهيب بين كل هذه القوى والفصائل.. والغريب فى الأمر أن هؤلاء جميعا بعيدون تماما عن نبض الشارع المصرى بكل طوائفه.. أين هذه النخبة من آلام ومعاناة الفلاح المصرى.. وأين كان هؤلاء والعمال يطردون كل يوم من مصانعهم أمام مقصلة الخصخصة وأشباح الانفتاح ونهب المال العام.. أين كانت هذه النخبة من الانتخابات المزورة وتشوية إرادة الشعب أين كانوا من الزواج الباطل وكانوا شركاء فيه بين السلطة ورأس المال.
إن الذى يدفع ثمن ذلك كله هو الشعب المصرى الآن بعد نجاح ثورته.. إن بقايا هذه النخبة تحاول اختطاف الثورة من شبابها.. إنهم لا يخجلون من إعلان ولائهم للثورة رغم أن الجميع يعلم ولاءات كثيرة أطلقوها خلال ثلاثين عاما لحكام مستبدين وأنظمة فاشية.
إن هذه النخبة وما بقى منها تحاول ركوب الثورة وحين تتكشف أهدافها تنضم إلى فلول النظام السابق لتشارك فى هدم هذه الثورة.. ولاشك أن غياب هذه النخبة قد ترك فراغا رهيبا فى الشارع المصرى على كل المستويات بل إن دورها المشبوه فى إفساد منظومة القيم فى المجتمع قد ترك آثارا سيئة لعل أخطرها تلك الانقسامات الحادة التى اجتاحت حياة المصريين.. كانت النخبة المصرية من أهم مدارس الوطنية بين أبناء المجتمع الواحد دون النظر إلى دين أو جنس أو لغة.. وكان دورها الحضارى يحمل كل الشواهد عن مجتمع متحضر عرف الفنون والآداب وأبدع فيها إبداعا جميلا.
كانت خسائر مصر من غياب النخبة فى أكثر من مجال ابتداء بالسياسة والأحزاب ودرجة الوعى وانتهاء بالفنون التى تراجعت وانهارت أمام موجات من الإسفاف والتخلف أصابت وخربت الوجدان المصرى وكان من ضحايا غياب النخبة.
إن رموز هذه النخبة هى التى وضعت فى الماضى أسس التفاهم والحوار بين أبناء الوطن الواحد وإن اختلفت العقائد والأديان وقد شجع على ذلك شواهد كثيرة للتطرف الدينى بين المسلمين والأقباط وكانت النخبة دائما هى سياج الأمن والأمان للإنسان المصرى ضد هذه الأمراض.
إن مصر الآن أحوج ما تكون لهذه النخبة فى ثقافتها وتحضرها ووعيها وتدينها الوسطى ورقى أذواقها وقبل هذا كله هى فى حاجة إلى هذه النخبة فى الحوار السياسى والفكرى وقد انحدر كثيرا حتى وصل إلى أحط الكلمات.
هل يمكن أن تنجب لنا ثورة 25 يناير نخبة جديدة لا تحمل أمراض نخبة رحلت واختفت وأصبحت الآن جزءا من ذكرياتنا.
المصدر جريدة الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق