بلال فضل .. حسرة علينا يا حسرة علينا


بلال فضل
حسرة علينا يا حسرة علينا
Sunday, July 24, 2011 at 9:56am

هل تريد فرقا واحدا بين العالم المتقدم والعالم المتخلف، بين العالم الحر والعالم المستعبد بمزاجه أو غصبا عنه؟سأعطيك فرقا واحدا يصنع كل هذه الفوارق بين تلك العوالم، اسمه: المسؤولية السياسية.
الإنجليز أناس «فاضية»، ولذلك غربت عن إمبراطوريتهم الشمس، ليس لديهم قدرة على تحديد الأولويات مثلنا، ولذلك لا يكسبون ولا يربحون فى كأس العالم، مع أنهم يربحون كثيرا فى غيره، وهم يخسرون كثيرا أيضا فى غيره، بلادهم لديها مشكلات اقتصادية واجتماعية لا عد لها ولا حصر، لكنهم على الأقل يواجهونها ويفكرون فيها ليل نهار ولا يدفنون رؤوسهم فى الرمال مكتفين بالعيش على أمجاد الماضى، بل إنهم لا يمنعون أحدا من أن يسخر من أمجاد ماضيهم الاستعمارى لأن ما يشغلهم أكثر هو حاضرهم ومستقبلهم.
لا أدرى إذا كنت قد سمعت عن الحملة العنيفة التى يتعرض لها فى بريطانيا الآن التايكون الأسترالى روبرت ميردوخ الذى يعد رمزا لسيطرة المال على الإعلام، لو نظرت فى قائمة ممتلكاته حول العالم ستجد فيها أشهر وأنجح الصحف ومحطات التليفزيون والراديو وشركات السينما والنشر، نفوذه وصل إلينا من خلال شراكته مع الأمير الوليد بن طلال فى مجموعة «روتانا». لغاية ثلاثة أسابيع مضت كان كثيرون من أولى العقل والنهى يشكون مر الشكوى من تغول نفوذ ميردوخ الذى استغل محطاته وصحفه لتصفية حساباته السياسية، ولذلك كان كبار السياسيين فى العالم يتملقونه ويجاملونه. وفجأة انهارت كل هذه الحصانة وأصبح الرجل ريشة فى مهب الريح، الكل ينزل فيه ضربا وفين يوجعك، لماذا؟ بسبب خطأ مهنى وأخلاقى جرى بحق مواطنة إنجليزية بسيطة، قامت به صحيفة «نيوز أوف ذى وورلد» التى يمتلكها منذ عام 1969 وتعد أقدم صحف يوم الأحد فى بريطانيا وأوسعها انتشارا، كانت الصحيفة قد قامت قبل سنوات بمساعدة بعض رجال البوليس وخبراء التنصت باختراق البريد الصوتى لموبايل مراهقة قُتلت فى جريمة، للحصول على أى معلومات عنها تنفرد بها الصحيفة، منذ فترة تم اكتشاف الفضيحة وحوسب على أثرها بعض رجال البوليس والعاملين فى الصحيفة، لكن الأمر لم يتسع أكثر بل تم التعامل معه بوصفه خطأ محدودا، بعدها تم تعيين مسؤول تحرير الصحيفة السابق أندى كولسن مسؤولا عن الإعلام لفترة فى فريق رئيس الوزراء ديفيد كاميرون رغم تحذير البعض له من دوره فى قضية التنصت، اتسعت الفضيحة عندما كشفت صحيفة «الجارديان» أن الصحيفة تنصتت على هواتف كثيرة لنجوم مثل هيو جرانت وستيف كوجان بل حتى لجنود تعرضوا للقتل فى أفغانستان، وأن التنصت كان سياسة تتبعها الصحيفة بعلم قيادات مؤسسة ميردوخ «نيوز إنترناشيونال»، وعلى رأسها سيدة تشتهر بشعرها الأحمر ومظهرها الغامض اسمها ريبيكا بروكس، وهى من أشد المقربين لميردوخ الذى يعتبرها إحدى بناته.
منذ أسبوعين تصاعدت الفضيحة أكثر وأكثر لتصبح شغل الإنجليز الشاغل، كلما اشتريت صحيفة أجد أخبار فضيحة التنصت تملأ الصفحات الأولى، وكلما شاهدت نشرة أخبار فى أى قناة أجد خبر الفضيحة يتصدر عناوينها، أنا كمواطن قادم من بلاد تعتنق شعار «أيوه بنتصنت على التليفونات واللى خايف مايتكلمش»، لم أفهم يعنى ما جريمة أن يتم التنصت على مكالمات أحد أو بريده الصوتى، هل الأمر يستحق كل هذه الضجة التى قلبت البلاد وجعلت ثمانين فى المئة من عبادها يفقدون ثقتهم بالإعلام حسب آخر استطلاع؟ هنا لا يؤمنون بأن المسامح كريم، فى ظرف أيام تم الإعلان عن إغلاق الصحيفة التى يبلغ عمرها أكثر من 180 عاما للتضحية بها لكى يعيش نفوذ ميردوخ، وتم القبض على كولسون وبعده على ذات الشعر الأحمر واستدعى ميرودخ على ملا وجهه من أمريكا ليواجه هو وابنه جلسة استماع أمام البرلمان تعرض فيها لحساب الملكين وختمت الحكاية بمحاولة الاعتداء عليه من قبل ناشط سياسى بقذفه برغوة صابون، وهى طريقة فى الاعتداء تشبههم برضه، لم يقل أحد «عيب مايصحش يا جماعة ده راجل عنده تمانين سنة وياما خدم البلاد»، بل إن الأزمة امتدت لكى تطال كاميرون نفسه بسبب علاقاته العائلية مع ريبيكا واستقباله ميردوخ فى مكتبه بعد نجاحه لكى يشكره على دعمه الإعلامى، قائد بوليس متروبوليتان المشهود له بالكفاءة استقال رغم آمال كانت تعلق عليه فى المدينة التى تستعد لاستقبال الأوليمبياد العام القادم، وكل ذلك لأنه قام بتعيين مسؤول تحرير سابق متورط فى الفضيحة ضمن فريق عمله معتبرا أنه لا بد أن يتحمل المسؤولية السياسية عن ذلك، ورغم كفاءته انهالت سياط الانتقاد عليه بعد أن اكتشفوا أنه حصل على مجاملة بآلاف الجنيهات للإقامة فى منتجع صحى فى فترة نقاهته من مرض، وبدأت المعارضة تشن حملة ضارية ضد كاميرون وتطالبه بالاقتداء برجل البوليس وتحمل المسؤولية السياسية، ولم يقتنع أحد باعتذاره عن تعيين كولسون وتأكيده أن علاقته بريبيكا كانت بريئة، وتعالت الأصوات بضرورة وضع قواعد صارمة لتغول رأس المال فى الإعلام والتخلص من عار الصحافة الشعبية التى تتدخل فى حياة الناس، ليجد المجتمع فى الأزمة فرصة لإصلاح ملف طالما اشتكى منه.
نعم كان لميردوخ نفوذ متغول كان البعض يعتبره سبة فى جبين الديمقراطية البريطانية، لكنه عندما خالف القانون لم ينفعه نفوذه ببصلة ولم يطالب الناس بمسامحته لكى لا تطفش استثماراته ولكى لا يرهب المستثمرين الذين يجب أن نثبت لهم أن بلادنا قابلة للبرطعة فيها، بل رآه الناس وهو يذل نفسه لأهل المراهقة التى تم التنصت عليها، ناشرا صفحات فى كل الصحف يعرب فيها عن أسفه ويتعهد بالإصلاح، ولم يقل أبدا «أنا ماليش دعوة.. موظفينى هما اللى عملوا كده»، لأنه يعلم أنه لو فعل ذلك فى بلد متحضر سيتهم بعدم احترام عقول المواطنين الذين لن يتقبلوا فكرة أن يقع فساد أو اعتداء على حقوق الناس من أحد مرؤوسيك ويتم حسابه فقط دون أن تمتد يد الحساب إليك.
ونحن يا سيدى، أيام كنا متحضرين كان لدينا خليفة راشد هو عمر بن الخطاب يعترف بالمسؤولية السياسية كحاكم عندما خشى أن يسأله الله لو عثرت بغلة فى العراق لأنه لم يمهد لها الطريق، أما الآن فلا نكف عن التحدث عن الدين ومع ذلك يسودنا من يريدنا أن نفكر بمنطق البغال التى لا تغضب إذا تعرضت للإهانة، البغال التى لا تمانع فى أن يفلت القتلة من محاكمتهم على مسؤوليتهم السياسية عن القتل.


هذا المحتوى من





Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق