بلال فضل
العالم يتتطهر
Thursday, July 7, 2011 at 12:06pm
حتى في العالم غير المتقدم انتهت حكاية أن يفلت مجرم من العقوبة لكبر سنه، فقد أصبح معلوما من التقدم بالضرورة أن العدالة عمياء لا تستثني أحدا، إلا نحن، فالعدالة لدينا عوراء وللأسف عوّرت نفسها بمزاجها.
في الأسبوع الماضي بدأت في كمبوديا محاكمات لأربعة من قادة الخمير الحمر المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية سقط فيها آلاف من القتلى خلال الأعوام من 1975 إلى 1979، كانت المحاكمة قد تأخرت لعدة أشهر بسبب التعقيدات التي وضعها عدد من فلول تنظيم الخمير الحمر الموجودين داخل الحكومة الجديدة، أكبر القادة سنا عمره 85 عاما وهو وزير خارجية النظام الذي لم يقتل بيده لكن المحكمة المدعومة من الأمم المتحدة اعتبرته متورطا سياسيا في كل ما جرى، بل وتحاكم معه زوجته البالغة من العمر 79 عاما والتي كانت تشغل منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية، كما يحاكم أيضا منظّر التنظيم ونائب زعيمه السفاح بول بوت، وعمره 84 عاما، وكذلك وزير الداخلية السابق وعمره 79 عاما، وجميعهم يحاكمون مع أنهم لم يقتلوا بأيديهم مباشرة، لكن مجرد وقوع تلك الجرائم تحت مسؤوليتهم السياسية جعلهم خاضعين للمحاكمة الجنائية. وقبل أن يتقافز عبيد مبارك ناعقين: وهل يمكن مقارنة من قتلوا مئات الآلاف بمن قتل ثمانمئة شهيد فقط لا غير، أتمنى لهم أن يجربوا يوما قتل أحب الناس إليهم لكي يكتشفوا أن القدرة على الفلسفة والتبرير تختفي فورا في حالتين: الأولى عندما يكتوي الإنسان بنار الظلم مباشرة، والثانية عندما يقرر أن يكون إنسانا وليس حلوفا فينحاز للمبدأ حتى لو لم يقع عليه الظلم مباشرة.
في الولايات المتحدة وقع خلال الأيام الماضية ثلاثة من كبار الحيتان في قبضة العدالة، أكثرهم نفوذا اللورد البريطاني كونراد بلاك صاحب الإمبراطورية الإعلامية التي تتضمن صحيفة «الديلي تليجراف» بجلالة قدرها والذي كان قد خرج من السجن في العام الماضي بكفالة بعد أن قضى فيه عامين مسجونا بتهمة الاحتيال وتضليل العدالة، وفي حين أفلت بعد خروجه من قضيتين أخريين سقط في القضية الثالثة ليعود ثانية إلى السجن لمدة 42 شهرا على أن يتم ترحيله من الولايات المتحدة بعد خروجه ومنعه من العيش فيها، ولم يأت أحد بسيرة «الصلح خير» ولا «خلينا نطلع منه بقرشين»، على الرغم من أنه أنفق ملايين الدولارات على حملة علاقات عامة لتلميع صورته والحصول على البراءة. الثاني كان حاكم ولاية إيلينوي السابق رود بلاجوفيتش الذي خرج من منصبه بفضيحة قبل عامين لاتهامه بالفساد والرشوة ومحاولة بيع كرسي سيناتور الولاية الذي خلا بترشح أوباما للرئاسة، هذا الأسبوع صدرت على بلاجوفيتش أحكام قاطعة ستجعله يقضي بقية عمره في السجن بعد إدانته بسبعة عشر اتهاما. أما الثالث فقد كان أخطر شخص يوضع على قائمة المطلوبين لدى المباحث الفيدرالية بعد أسامة بن لادن، وهو ليس عربيا ولا مسلما بل مجرم أمريكي شهير ظل 16 عاما هاربا من البوليس لتورطه في 19 جريمة قتل وإدارته لعصابة مافيا في بوسطن خلال السبعينيات والثمانينيات، اسمه جيمس وايتي بولجر وعمره 81 عاما، وقد استلهم المخرج مارتين سكورسيزي كثيرا من تفاصيله الشخصية في الدور الذي لعبه العبقري جاك نيكلسون في فيلم «ذي ديبارتد»، وكالعادة تم الوصول إليه عن طريق تتبع امرأة هي صديقته الحميمة.
في الصين التي تعاقب الفاسدين الحكوميين بالإعدام حذر الرئيس الصيني هيو جينتاو خلال احتفاله بالعيد التسعين للحزب الشيوعي الصيني من عواقب انتشار الفساد الحكومي على تقدم الصين المتواصل متوعدا بمزيد من العقوبات القاسية. في روسيا حاول موظف عام الإفلات من تهمة الرشوة التي تم ضبطه بها بأن أكل مبلغ الرشوة البالغ قدره 35 ألف روبل، لكن البوليس اصطحبه إلى المستشفى وهناك تم استخراج سبع قطع من أوراق النقود كانت كافية لكي يحال إلى المحاكمة، أما في إندونيسيا فقد تم أخيرا إطلاق سراح أقدم سجين في العالم لأسباب إنسانية هي ببساطة أنه بلغ من العمر 108 سنوات، وحتى نتطهر نحن أيضا ويقر الله أعيننا برؤية مجرمينا وقد وقعت عليهم العدالة العمياء التي لا ترى سنهم أو وجاهتهم الاجتماعية، نبقى في إندونيسيا التي فجر فيها الصحفي ياسر عليمي حملة صحفية عن أوضاع الشغالات الإندونيسيات في دول الخليج متهما قادة بلاده بالتواطؤ ضد مواطنات إندونيسيا اللواتي وصفهن بالبطلات، منطلقا من واقعة حصلت الأسبوع الماضي في السعودية عندما تم قطع رأس شغالة إندونيسية لأنها قتلت الرجل الذي كانت تعمل لديه، مع أنها كانت كما يقول عليمي تدافع عن نفسها ضد رجل كان يتحرش بها دائما ويحجز مرتبها ويمنعها من العودة إلى وطنها، ومع ذلك تجاهل الساسة الإندونيسيون قضيتها، كما تجاهلوا أكثر من 4 آلاف بلاغ عن التحرش والاعتداء على عاملات إندونيسيات في دول أجنبية، نصف هذه البلاغات قادم من إندونيسيات يعملن في السعودية، فضلا عن موت تسعمئة إندونيسية في أثناء عملهن في الخارج دون أن يسأل فيهن أحد.
أخيرا توقفت عند خبر نشرته مجلة «ذي ويك» البريطانية يتحدث عن سجن كاتبة تايوانية متخصصة في الكتابة عن الطعام لأنها كتبت عن مطعم للنودلز في مدينة تايشنونج فقالت: إن أكل المطعم «ملحه زيادة»، ثم اعترفت أمام المحكمة أنها لم تجرب سوى صنف واحد من قائمة الطعام، وهو ما اعتبرته المحكمة تضليلا للرأي العام وحكمت بسجنها ثلاثين يوما وألزمتها بدفع تعويض يوازي مبلغ 4800 جنيه إسترليني، بينما نحن ندلّع رؤساء التحرير السابقين الذين ضللوا الرأي العام سنين طويلة، روجوا الأكاذيب ولحسوا أعتاب نظام مبارك ووالسوا على فساده وخاضوا في أعراض معارضيه ووطنيتهم، فنمنح أغلبهم أعمدة صحفية بوصفهم من كبار الكتاب، مع أنهم كانوا أحق بالسجن جنبا إلى جنب مع أسيادهم السابقين، ولكي لا أتهم بالدعوة إلى حبس الصحفيين إذا صح أن نسمي هؤلاء صحفيين أصلا، أتمنى أن نجد لدينا قاضيا عادلا يحكم عليهم بأن يأكلوا كل مقالات النفاق التي كتبوها طيلة سنوات خدمتهم في بلاط حسني مبارك، ولعلها أقل عقوبة يستحقونها.
رُفعت الجلسة
المصدر جريدة التحرير
العالم يتتطهر
Thursday, July 7, 2011 at 12:06pm
حتى في العالم غير المتقدم انتهت حكاية أن يفلت مجرم من العقوبة لكبر سنه، فقد أصبح معلوما من التقدم بالضرورة أن العدالة عمياء لا تستثني أحدا، إلا نحن، فالعدالة لدينا عوراء وللأسف عوّرت نفسها بمزاجها.
في الأسبوع الماضي بدأت في كمبوديا محاكمات لأربعة من قادة الخمير الحمر المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية سقط فيها آلاف من القتلى خلال الأعوام من 1975 إلى 1979، كانت المحاكمة قد تأخرت لعدة أشهر بسبب التعقيدات التي وضعها عدد من فلول تنظيم الخمير الحمر الموجودين داخل الحكومة الجديدة، أكبر القادة سنا عمره 85 عاما وهو وزير خارجية النظام الذي لم يقتل بيده لكن المحكمة المدعومة من الأمم المتحدة اعتبرته متورطا سياسيا في كل ما جرى، بل وتحاكم معه زوجته البالغة من العمر 79 عاما والتي كانت تشغل منصب وزيرة الشؤون الاجتماعية، كما يحاكم أيضا منظّر التنظيم ونائب زعيمه السفاح بول بوت، وعمره 84 عاما، وكذلك وزير الداخلية السابق وعمره 79 عاما، وجميعهم يحاكمون مع أنهم لم يقتلوا بأيديهم مباشرة، لكن مجرد وقوع تلك الجرائم تحت مسؤوليتهم السياسية جعلهم خاضعين للمحاكمة الجنائية. وقبل أن يتقافز عبيد مبارك ناعقين: وهل يمكن مقارنة من قتلوا مئات الآلاف بمن قتل ثمانمئة شهيد فقط لا غير، أتمنى لهم أن يجربوا يوما قتل أحب الناس إليهم لكي يكتشفوا أن القدرة على الفلسفة والتبرير تختفي فورا في حالتين: الأولى عندما يكتوي الإنسان بنار الظلم مباشرة، والثانية عندما يقرر أن يكون إنسانا وليس حلوفا فينحاز للمبدأ حتى لو لم يقع عليه الظلم مباشرة.
في الولايات المتحدة وقع خلال الأيام الماضية ثلاثة من كبار الحيتان في قبضة العدالة، أكثرهم نفوذا اللورد البريطاني كونراد بلاك صاحب الإمبراطورية الإعلامية التي تتضمن صحيفة «الديلي تليجراف» بجلالة قدرها والذي كان قد خرج من السجن في العام الماضي بكفالة بعد أن قضى فيه عامين مسجونا بتهمة الاحتيال وتضليل العدالة، وفي حين أفلت بعد خروجه من قضيتين أخريين سقط في القضية الثالثة ليعود ثانية إلى السجن لمدة 42 شهرا على أن يتم ترحيله من الولايات المتحدة بعد خروجه ومنعه من العيش فيها، ولم يأت أحد بسيرة «الصلح خير» ولا «خلينا نطلع منه بقرشين»، على الرغم من أنه أنفق ملايين الدولارات على حملة علاقات عامة لتلميع صورته والحصول على البراءة. الثاني كان حاكم ولاية إيلينوي السابق رود بلاجوفيتش الذي خرج من منصبه بفضيحة قبل عامين لاتهامه بالفساد والرشوة ومحاولة بيع كرسي سيناتور الولاية الذي خلا بترشح أوباما للرئاسة، هذا الأسبوع صدرت على بلاجوفيتش أحكام قاطعة ستجعله يقضي بقية عمره في السجن بعد إدانته بسبعة عشر اتهاما. أما الثالث فقد كان أخطر شخص يوضع على قائمة المطلوبين لدى المباحث الفيدرالية بعد أسامة بن لادن، وهو ليس عربيا ولا مسلما بل مجرم أمريكي شهير ظل 16 عاما هاربا من البوليس لتورطه في 19 جريمة قتل وإدارته لعصابة مافيا في بوسطن خلال السبعينيات والثمانينيات، اسمه جيمس وايتي بولجر وعمره 81 عاما، وقد استلهم المخرج مارتين سكورسيزي كثيرا من تفاصيله الشخصية في الدور الذي لعبه العبقري جاك نيكلسون في فيلم «ذي ديبارتد»، وكالعادة تم الوصول إليه عن طريق تتبع امرأة هي صديقته الحميمة.
في الصين التي تعاقب الفاسدين الحكوميين بالإعدام حذر الرئيس الصيني هيو جينتاو خلال احتفاله بالعيد التسعين للحزب الشيوعي الصيني من عواقب انتشار الفساد الحكومي على تقدم الصين المتواصل متوعدا بمزيد من العقوبات القاسية. في روسيا حاول موظف عام الإفلات من تهمة الرشوة التي تم ضبطه بها بأن أكل مبلغ الرشوة البالغ قدره 35 ألف روبل، لكن البوليس اصطحبه إلى المستشفى وهناك تم استخراج سبع قطع من أوراق النقود كانت كافية لكي يحال إلى المحاكمة، أما في إندونيسيا فقد تم أخيرا إطلاق سراح أقدم سجين في العالم لأسباب إنسانية هي ببساطة أنه بلغ من العمر 108 سنوات، وحتى نتطهر نحن أيضا ويقر الله أعيننا برؤية مجرمينا وقد وقعت عليهم العدالة العمياء التي لا ترى سنهم أو وجاهتهم الاجتماعية، نبقى في إندونيسيا التي فجر فيها الصحفي ياسر عليمي حملة صحفية عن أوضاع الشغالات الإندونيسيات في دول الخليج متهما قادة بلاده بالتواطؤ ضد مواطنات إندونيسيا اللواتي وصفهن بالبطلات، منطلقا من واقعة حصلت الأسبوع الماضي في السعودية عندما تم قطع رأس شغالة إندونيسية لأنها قتلت الرجل الذي كانت تعمل لديه، مع أنها كانت كما يقول عليمي تدافع عن نفسها ضد رجل كان يتحرش بها دائما ويحجز مرتبها ويمنعها من العودة إلى وطنها، ومع ذلك تجاهل الساسة الإندونيسيون قضيتها، كما تجاهلوا أكثر من 4 آلاف بلاغ عن التحرش والاعتداء على عاملات إندونيسيات في دول أجنبية، نصف هذه البلاغات قادم من إندونيسيات يعملن في السعودية، فضلا عن موت تسعمئة إندونيسية في أثناء عملهن في الخارج دون أن يسأل فيهن أحد.
أخيرا توقفت عند خبر نشرته مجلة «ذي ويك» البريطانية يتحدث عن سجن كاتبة تايوانية متخصصة في الكتابة عن الطعام لأنها كتبت عن مطعم للنودلز في مدينة تايشنونج فقالت: إن أكل المطعم «ملحه زيادة»، ثم اعترفت أمام المحكمة أنها لم تجرب سوى صنف واحد من قائمة الطعام، وهو ما اعتبرته المحكمة تضليلا للرأي العام وحكمت بسجنها ثلاثين يوما وألزمتها بدفع تعويض يوازي مبلغ 4800 جنيه إسترليني، بينما نحن ندلّع رؤساء التحرير السابقين الذين ضللوا الرأي العام سنين طويلة، روجوا الأكاذيب ولحسوا أعتاب نظام مبارك ووالسوا على فساده وخاضوا في أعراض معارضيه ووطنيتهم، فنمنح أغلبهم أعمدة صحفية بوصفهم من كبار الكتاب، مع أنهم كانوا أحق بالسجن جنبا إلى جنب مع أسيادهم السابقين، ولكي لا أتهم بالدعوة إلى حبس الصحفيين إذا صح أن نسمي هؤلاء صحفيين أصلا، أتمنى أن نجد لدينا قاضيا عادلا يحكم عليهم بأن يأكلوا كل مقالات النفاق التي كتبوها طيلة سنوات خدمتهم في بلاط حسني مبارك، ولعلها أقل عقوبة يستحقونها.
رُفعت الجلسة
المصدر جريدة التحرير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق