عمر طاهر .. النقشبندى

عمر طاهر
النقشبندى
Thursday, August 11, 2011 at 11:15am


(1)

فى أحد الأيام جلس الشيخ سيد النقشبندى وبليغ حمدى والشاعر عبد الرحيم منصور فى جلسة تعارف مبدئى وعمل فى الوقت نفسه، وكان منصور قد أعد قصيدة ليغنيها النقشبندى، لكن الكلام لم يعجبه.. فأخذه بليغ ولحنه وسجله بصوته ليثبت للنقشبندى أن اختياره لم يكن خاطئا، وعندما أعجبه اللحن حاول أن يغنيه، لكن بليغ رفض تماما.بعدها صارا صديقين لم يفرقهما سوى الموت.

(2)

عندما سأله أحد أصدقائه -بعد أن بلغت شهرته ذروتها

- لماذا لا تقطن القاهرة يا شيخ سيد؟! ألقى الشيخ السيد من شرفة منزله الكائن بجوار مسجد سيدنا أحمد البدوى بطنطا نظرة ناحية منبر المسجد، ثم التفت إلى صديقه قائلا «أنا أسيب جوار السيد البدوى؟».

(3)

كانت الرؤية واضحة ومحددة فى بدايات عام 1955.. كانت رؤية اطمأن لها قلبى -والكلام للشيخ سيد- بعد شهر من إقامتى فى طنطا فقد رأيت فى المنام السيد البدوى يأخذنى تحت إبطه باستقبال طيب وحنان وافر، وقمت من نومى وأنا تحت إبطه الشريف، فاستبشرت خيرا.. وبالفعل منذ هذه الرؤية والأمور تسير على أحسن الأحوال فى هذا الجوار الكريم. كان الشيخ سيد يكسب كثيرا، وبيته المتواضع جدا كان مفتوحا لمريديه ومحبيه ومحبى سيدنا أحمد البدوى.. لم يكن له أى رصيد فى البنوك، ولم يكن يتعامل معها أساسا لعدم وجود فائض لديه.. لا يعمل حسابا للمستقبل ولا يرهق نفسه فى التفكير فى الغد، والدليل على هذا أنه كان مدخنا شرها.. لم يكن من هؤلاء الذين يتناولون غزل البنات ويكممون أفواههم بمناديل خوفا من التراب أو الدخان، حفاظا على حناجرهم.. بل كان على سجيته يأكل ما يشاء ويدخن بنهم، ويتناول القهوة بلا عدد.. ولم يكن يتعاطى أى مكيفات أخرى، لكن كان له مزاج آخر يرى فيه قمة سعادته.. فى قصيدة شعر يقرؤها فيحفظها أو فى لحن جديد يؤديه.

(4)

فى عام 1918 خرج الطفل سيد النقشبندى للنور.. وكان كل ما يشغل أباه الطريقة التى سيضع بها ابنه على المذهب الذى أنشأه جده الكبير (الشيخ محمد بهاء الدين نقشبند شاه).. هذا الشيخ الذى قدم مع أوائل القرن قبل الماضى من ولاية أذربيجان كى يلتحق بجامعة الأزهر.. والذى كوّن جماعة من محبيه تذكر الله بالطريقة النقشبندية.. وهى تقوم على الالتزام بالصمت فى حلقاتها، ويتم الذكر بالقلب فقط دون اللسان.. حيث يكون الفم مغلقا تماما واللسان فى سقف الحلق. مرّ على الأب عشر سنوات لاحظ خلالها بشائر مستقبل الابن الذى حفظ القرآن فى رحاب مسجد سيدنا البدوى.. ثم تألق بعيدا عن والده فى الإنشاد وشب شغوفا بقراءة الرافعى والمنفلوطى وطه حسين.. وكان يقوم بتلحين القصائد بنفسه.

(5)


عملت معه أول مرة مع الموسيقار بليغ حمدى -والكلام للفنان عمار الشريعى- وسجلنا 15 دعاء فى رمضان عام 1972، كانت كلمات الشاعر عبد الفتاح مصطفى، وكنت أنا وقتها عضوا فى فرقة صلاح عرام. بعد ذلك شاءت الظروف أن نعمل معا فى ألحان للأستاذ إبراهيم رجب، وكنت أنا الفرقة بمفردى.. وكنت أغنى خلفه -كنت البطانة يعنى - وفى هذه المرة استطعت أن أشاهده بشكل أفضل. المرة الثالثة عملت معه وهو متوفى.. بعد وفاته أحضر لى محمد مشعل شرائط للشيخ النقشبندى لم تُذَع من قبل وأخذت منها صوته وقمت بتركيب الموسيقى عليه، لنقدم بصوته أشهر التواشيح التى تذاع يوميا فى رمضان«الله.. الله.. لا إله إلا
الله».
أول ما يتميز به صوته اتساع المساحة الصوتية، وكان صوته فى القرار أو فى الغليظ محددا، ولا يهرب منه.. وعندما يعلو بلغة الموسيقى«يطلع فوق» لا تستطيع إلا أن تقول له «الله»، كانت له القدرة على إتقان القفلات الموسيقية وقفلاته لم يتميز بها إلا المشايخ من قطعية الشيخ رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل.. كانت قفلته تجبرك على الفرحة أيا كانت ثقافتك الموسيقية.. ولو حتى بالإحساس.. تشعر أنه«جاب جول». غير ذلك كانت معلوماته المقاماتية غير واسعة، بمعنى أنه لا يستطيع أن يميز بين مقامى الرصد والحجاز.. لكن نظرته الموسيقية كانت سليمة ولا يقوم بالنقل من مقام إلى مقام خطأ.. وتشعر بأنه يتنقل بين المقامات «جدعنة».. ربنا خلقه كده.

(6)

لم تكتشفه الإذاعة إلا بعد أن تجاوز الخمسين من عمره، بعدما أصبح جدا.. دخل النقشبندى الإذاعة من باب السيدة زينب، التى منحته فى الليلة الكبيرة من مولدها نفحة بحضور الإذاعى المعروف مصطفى صادق، الذى كان يجوب الموالد بحثا عن فكرة مجنونة تصلح لبرنامج إذاعى يقدم فى شهر رمضان.. ظل هائما حتى أفاق على صوت الشيخ النقشبندى، وهو يشدو فى مولد السيدة.. فذهب إلى «بابا شارو» وعرض عليه عرضا محددا.. دعاء يتم تقديمه عقب أذان المغرب مباشرة، وقال إنه يستطيع أن يرشده إلى صوت وحيد يصلح لهذه المهمة.. النقشبندى. لم يستغرق شيخنا أكثر من عشر دقائق من باب مبنى الإذاعة والتليفزيون إلى حجرة «بابا شارو»، إلى استوديو البرنامج العام لبدء التسجيل. وبدأ نجمه يلمع وتعاقدت معه شركات الأسطوانات.. وتحول إلى نجم ملء الآذان والأبصار.. وأصبحت أكثر الصديقات إلحاحا فى الاتصال به والاستماع إليه أم كلثوم، وكان أن اتفقت معه على مشروع مشترك.. «رواية تاريخ الرسول غناء».. لكن القدر لم يمهلها أيضا، وتركت النقشبندى محوطا بصداقة الجميع وسلمته يدا بيد للملحن بليغ حمدى.

(7)

فى أحد أيام الجمعة أنهى الشيخ سيد عمله فى التليفزيون.. ثم توجه إلى منزل شقيقه وكتب وصيته، اندهش أهله من هذا التصرف، بعدها عاد إلى طنطا وتوُفّى بعد يومين.

هذا المحتوى من

 

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق