عرض كتاب زمن الخداع للبرادعى (3)

 إلى مايا، حفيدته ذات الأعوام الثلاثة، يهدى محمد البرادعى، المرشح الرئاسى المصرى والحائز على جائزة نوبل للسلام، كتابه الذى يحكى فيه قصة 12 عاما أمضاها على رأس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بحثا عن تقويض انتشار مدمر للسلاح النووى وتخفيض لترسانات نووية قائمة واستخدامات سلمية للطاقة النووية تسهم فى توليد الطاقة وعلاج السرطان ــ أى بحثا عن عالم أفضل يحلم البرادعى أن يسوده الأمن من الدمار والسعى للنماء، عالم يريد أن يتركه لهذه الحفيدة وحفيدات وأحفاد آخرين قد يكونون له يوما، ولأجيال من الأطفال، من بينهم من يعنى به البرادعى بنفسه من خلال كفالة أيتام فى مناطق فقيرة فى القاهرة، وبينهم أطفال فى العراق وإيران وكوريا الشمالية وغيرها يرى البرادعى أنهم يستحقون عالما أفضل.
أربعة فصول كاملة وطويلة يخصصها البرادعى، من كتابه «زمن الخداع»، بترتيب زمنى يفصل بعضها عن البعض، ليروى القصة المتلاحقة الفصول لبرنامج إيران النووى، وذلك بعد أن روى القصة العراقية فى فصلين وقصة كوريا الشمالية فى فصلين آخرين ــ دوما حسب التسلسل الزمنى الذى يتفاعل معه المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية مقارنا بين سياقات تعاطى المجتمع الدولى وقواه العظمى.

فى فصول إيران، المعنونة ببساطة «تقية» و«غير مسموح بأى أجهزة طرد على الإطلاق»، «إيران 2007 ــ 2008» و«إيران 2009»، وبعبارات محكمة الاختيار وبتسلسل للوقائع لا يخلو من مداخلة لطرح التحليل أو إضافة خلفية يشرح البرادعى كيف بدأت قصة الملف الإيرانى وكيف تحركت المباحثات والمكاتبات والزيارات بين طهران وفيينا مقر الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

ناتنز

«فى منتصف عام 2002، وبينما العالم يواجه أزمتين نوويتين، واحدة فى العراق والأخرى فى كوريا الشمالية، جاءت صور الأقمار الصناعية التى تم التقاطها لمبنى خرسانى غير واضح المعالم فى مدينة ناتنز الواقعة بإقليم أصفهان بإيران والتى توحى بأن هذا المبنى ربما يكون مستخدما لأغراض تخصيب اليورانيوم». هكذا يفتتح البرادعى الحديث عن إيران فى الفصل الأول من فصولها الثلاثة والذى يطلق عليه اسم «تقية» أى سياسة اتقاء الضرر وتفادى العداء.

وبعد ذلك بأسابيع قليلة، كما يضيف البرادعى، عقد ممثلون عن المجلس الوطنى الايرانى للمقاومة، وهو كيان ايرانى سياسى معارض، مؤتمرا صحفيا فى واشنطن ليعلنوا عن قيام طهران ببناء منشآة نووية سرا فى ناتنز، لتبدأ أعمال الوكالة الدولية للطاقة الذرية فى التحقق من هذه المعلومات، مع غلام رضا آغازاده، نائب رئيس الجمهورية الايرانية ومدير المنظمة الوطنية للطاقة النووية فى إيران، وفى فيينا، سبتمبر 2002، كان حديث البرادعى الأول، والذى تلته عشرات بل مئات الاحاديث، حول ملف إيران النووى، كما يتابع قارئ «زمن الخداع».

«وعلى هامش الاجتماع انفردت بآغازاده وسألته عن حقيقة المنشآة التى تم تصويرها فى نانتز وما إذا كانت فعلا تستخدم لأغراض التخصيب، مقترحا انه ربما يجب أن اقوم مع بعض اعضاء الوكالة بزيارة لهذا الموقع للتحقق من حقيقة ما يدور فيه»، يتذكر البرادعى، مضيفا ان محدثه الأيرانى «أجاب بود قائلا: بالطبع سنوجه لكم الدعوة قريبا وعندئذ سيتم إيضاح كل شىء».

ولكن الدعوة تأخرت «واستمرت المماطلة لشهور متتالية»، التقى خلالها البرادعى مع وزير الخارجية الأمريكى كولين باول ومساعده ريتشارد آرميتاج ليخبرهما بأن السياسة الأمريكية إزاء إيران والتى تقوم بالأساس على استخدام المقاطعة والعقوبات على طهران لمنعها من تطوير اسلحة نووية، «ليست بالسياسة المجدية».

وكان هذا هو التفكير الحاكم لنهج البرادعى إزاء الملف الإيرانى وحتى مغادرته منصبه فى فيينا فى 2009 فى وقت لم يكن قد تم بعد فيه التوصل لحل لهذه الإشكالية بناء على ما يصفه بإدراك قائم على الخبرات بـ«أن محاولة منع دولة ما من الحصول على التكنولوجيا النووية إنما يستفز الحماسة الوطنية لدى هذه الدولة ويجعل هدف الوصول إلى تطوير سلاحا نوويا هو أولوية قومية تسعى لها هذه الدولة بكل طاقتها».

طهران ــ فيينا
وفى النهاية، قررت طهران تقديم الدعوة. «وفى أول مقابلة أجريناها فى طهران أقر آغازاده والفريق المعاون له أن المبنى قيد التساؤل فى نانتز هو بالفعل مبنى مخصص لتخصيب اليورانيوم، لكنهم أصروا أنه لم يتم بناؤه بغرض إخفائه عن الوكالة الدولية للطاقة الذرية»، يقول البرادعى.

وفى اليوم التالى توجه البرادعى وفريقه إلى الموقع النووى وبرفقتهم آغازاده ونائبه محمد سعدى وعدد كبير من المهندسين والفنيين الإيرانيين. وبحسب شهادة البرادعى فإن حجم الطموح الايرانى اتضح عند زيارة نانتز لأن «ما رأيناه فى نانتز يتجاوز بكثير المفاعل النووى الذى قدمته روسيا لإيران فى بوشهر».

وعقب زيارة نانتز جاء اللقاء مع الرئيس الإيرانى الإصلاحى محمد خاتمى الذى، كما يصف البرادعى فى «زمن الخداع»، قدم الترحيب الحار وتحدث لدقائق بالعربية قبل أن يبدأ السفير الايرانى فى فيينا على أكبر صالحى ترجمة ما قاله خاتمى من تفاصيل حول البرنامج النووى استوقف البرادعى معرفة الرئيس الإيرانى بها بدقة كبيرة.

وبعد حديث خاتمى بدأت سلسلة من اللقاءات والزيارات، ويقول البرادعى: «أدركت مبكرا أننا بصدد التعامل مع فريق يبدو مستعدا للمرواغة لتحقيق أهدافه، وعلى هذا قررت أننى لن أقبل بأية تأكيدات يقدمها الايرانيون بدون الحصول على الأدلة الداعمة لهذه التأكيدات التى بدت ضرورية بصورة قطعية فى هذه الحالة».

تقية

«أخبرنى الكثيرون، بما فى ذلك الرئيس المصرى مبارك، أن العقيدة الشيعية تسمح لاتباعها باستخدام المراوغة وسيلة لتحقيق الأهداف المبتغاة. وقيل لى إن الكلمة المستخدمة فى هذا الصدد هى كلمة «تقية» ــ أى اتقاء الضرر الذى قد يصيب الإنسان أو هؤلاء المسئول عنهم»، يقول البرادعى، مضيفا أنه من جانبه أخبر «المسئولين الإيرانيين أنه بغض النظر عن الأسباب أو الأهداف وراء مراوغتهم، فإن هذه المراوغة من شأنها أن تتسبب فى ضرر بالغ لعلاقتهم بالمجتمع الدولى».

وما بين تقييم مبارك وآخرين، ونصيحة البرادعى، تصرف الإيرانيون، حسبما يروى البرادعى، بقدر من الاقدام والادبار فى التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولم يكن الأقدام والإدبار مقصورا على مراحل زمنية متتالية وتأثيرات دولية متتابعة، خاصة ما يصدر من مواقف عن واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبى، بل أيضا مرتبطا بدوائر مختلفة من دوائر صنع السياسة الإيرانية بها من هو أكثر تشددا وبها من هو اكثر رغبة فى التصالح مع الواقع العالمى.

وبين هذه العواصم العالمية وبين طهران، بدوائرها السياسية المختلفة يتحرك البرادعى ويتواصل بحثا عن حل سلمى للملف الإيرانى النووى.

حقوق نووية

وفى كل المباحثات، التى تصل فى مراحل كثيرة إلى مفاوضات، كانت النقطة الحاسمة للموقف الإيرانى أن طهران من حقها، بوصفها دولة عضو فى اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية أن تمتلك كامل دورة الوقود النووى من ألفها إلى يائها، مع الأخذ فى الاعتبار أن امتلاك كامل دورة الوقود النووى لا يرتبط بالضرورة بالاستخدامات العسكرية وكثيرا ما يستخدم للأغراض السلمية، كما شرح البرادعى فى مقدمة كتابه «زمن الخداع». ولكن لأن امتلاك كامل دورة الوقود النووى هو البوابة الأولى لامتلاك السلاح النووى لمن يريد، فإن الغرب، ومن ورائه، أو ربما من أمامه، إسرائيل، يقف رافضا لممارسة إيران هذا الحق، خاصة أن طهران لم تكاشف الوكالة الدولية للطاقة الذرية بكل نشاطتها النووية، كما يسجل البرادعى.

«وبالنسبة لواشنطن فإن كذب إيران دليل دامغ على أنها تسعى لتطوير اسلحة نووية»، يقول البرادعى، مضيفا فى ذات الفقرة «وبالطبع فإن الوصول لمثل هذا الاستنتاج لم يكن لديه ما يؤيده من الدليل الفعلى»، سواء لدى الحكومات الغربية الحانقة على سلوك إيران النووى أو لدى الوكالة الدولية للطاقة الذرية المسئول الأول عن متابعة جميع النشاطات النووية للدول الأعضاء.

أيام وسنوات التفاوض
ولم تكن مهمة البرادعى فى حث إيران على كشف كل أوراقها النووية سهلة، كما أن مهمته للتفاوض على حل يضمن لإيران الحصول على الوقود النووى اللازم للأغراض السلمية لم يكن سهلا خصوصا أن قيادات إيرانية كانت تجرى مفاوضات مع عواصم غربية، خاصة الأوروبية، دون تدخل مباشر أو حتى إخطار وافٍ للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وإن كانت فى المراحل الفاصلة تتم بتدخل حاسم ومقترحات محددة من قبل المدير العام السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية الذى يروى تفاصيل دقيقة عن التفاوض يسيطر عليها قلقه، خاصة بعد الحرب التى قادتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق فى 2003، من تكرار تلك التجربة المأساوية وخشيته فى الوقت ذاته من المدى الذى يمكن أن تذهب إليه المراوغات الايرانية، بالرغم من تأكيده دوما فى «زمن الخداع» أن أحدا لم يأت بدليل على تورط إيران فى تطوير برنامج للتسلح النووى، دون إغفال إشارات جديرة بالاهتمام انه «ربما» كان لدى إيران نوايا تسلح نووى فى مراحل سابقة، خاصة عقب الحرب الطاحنة والطويلة التى دارت رحاها بينها وبين العراق فى الثمانينات والتى استخدم صدام حسين خلالها أسلحة كيميائية.

لقاء بوش

وحسبما يتابع قارئ «زمن الخداع» فى الفصول الأربعة المخصصة لإيران فإن التعامل الأمريكى مع الملف الايرانى كان فى الأغلب على مستوى رفيع للغاية، بما فى ذلك مستوى الرئيس الأمريكى نفسه. ولأن سنوات البرادعى فى الوكالة الدولية للطاقة الذرية كانت متزامنة مع سنوات جورج دبليو بوش فى البيت الأبيض.

«استقبلنى بوش بحديث ودود حول لعبة البيسبول التى أهتم بها وأتابعها وتحدثنا قليلا عن أحد فرق هذه اللعبة الأمريكية»، يقول البرادعى حول لقائه مع بوش حول إيران فى واشنطن فى مارس 2004.

لقاء بوش والبرادعى فى واشنطن 2004، كما غيره من اللقاءات التالية بين الرئيس الأمريكى ومدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كان به دوما مزيج من العبارات الودودة ومقترحات من البرادعى يبدى بوش حماسا لها وأعرب عن التوجس الشديد إزاء إيران من قبل الرئيس الامريكى، يحاول البرادعى أن يهدئ منه فى ضوء ما لديه من معطيات تفيد بأنه على الرغم من المراوغة الإيرانية فإنه لا دليل على سعى طهران لامتلاك السلاح النووى وبالنظر إلى خشية لا يخفيها كثيرا صاحب «زمن الخداع» من أن ينفلت زمام الأمور وتقع ضربة عسكرية ينقل عن بوش قوله فى ربيع 2004 أن إسرائيل قد تقوم بها ضد إيران ــ وكان البرادعى يعلم كما يكرر أن صقور إدارة بوش داعمين لهذه الضربة.

«أكدت للرئيس بوش أن إطلاق التهديدات فى وجه طهران لن يكفى والمهم أن تكون هناك أيضا أسباب لتحفيز إيران على التعاون»، يقول البرادعى حول أول لقاء مارس 2004.

الحوار بين أمريكا وإيران

ويشدد البرادعى على أنه كثيرا ما سعى لإقناع الولايات المتحدة الأمريكية بأهمية الدخول فى حوار مباشر مع إيران بوصف أن تحقيق ذلك الحوار واحترام العزة والكرامة الإيرانية هما أمران أساسيان، حسب تقديره المبنى على خبرات سابقة ومباحثات عديدة من مسئولين إيرانيين، للتوصل إلى صفقة ما حول البرنامج الإيرانى النووى تمكن إيران من الحصول على مبتغاها التكنولوجى وتطمأن الغرب بأن طهران ليست فى وارد امتلاك أسلحة نووية بل وتخلق نوعا من التفاهم حول سياسات فى منطقة الشرق الأوسط الأوسع بين واشنطن وطهران بالنظر إلى المصالح المشتركة والتأثير المتبادل فى بلدان مثل أفغانستان والعراق.

وبحسب فصول البرادعى الأربعة حول إيران فإن آفاقا للحوار تفتحت فى مراحل مختلفة وحصلت على درجات متفاوتة من الدعم من هذه الدائرة أو تلك فى العاصمة الأمريكية، ولكن المقاومة الامريكية لهذا الحوار، بل والعرقلة من بعض الأطراف الإيرانية له، وأسباب أخرى يروى البرادعى تفاصيلها حالت دون اكتمال هذا الحوار بالصورة التى يمكن أن تنجز اتفاقا. والأسوأ من ذلك أن سيطرة المتشددين ــ الذين لا يضع البرادعى بوش ومستشارة الأمن القومى فوزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ضمنهم بالضرورة، فى واشنطن، وعدم ضبط الاوروبيين وروسيا الذين دخلوا على خط التفاوض مع إيران لوقع الحوار مع طهران، إضافة إلى استمرار المراوغة الإيرانية كثيرا ما تسببوا فى صدور قرارات متتالية من مجلس الأمن بحق طهران وما يتبعه أو يسيقه ذلك من تعنت إيرانى إزاء التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

الحملات على البرادعى

وفى كل مرة كان البرادعى يقدم فيها على الدفع نحو فتح آفاق للتسوية الدبلوماسية كان يبدو كما لو أنه يطأ على قدم أحدهم، فتنطلق الحملات ضده مرة من طهران ومرة من واشنطن، والانتقاد دائما ــ كما كان الحال خلال التعامل مع الملف العراقى ــ يأتى باتهام البرادعى بالتساهل مع إيران أو التواطؤ ضدها مع امريكا. الصحف الايرانية تقول إن البرادعى شخص محبط ويقع تحت التأثيرات الأمريكية، والصحف الامريكية تتهم البرادعى بالتجاوز عن سعى إيران لامتلاك السلاح النووى. ولا تقتصر الحملات التى يتابع تفاصيلها قارئ «زمن الخداع» على الصحف ووسائل الإعلام بل تشمل ايضا الدوائر الدبلوماسية من هنا ومن هناك.

وبالطبع فإن الصحف الإسرائيلية شاركت فى الحملات على البرادعى بما فى ذلك ما نشرته صحيفة الجيروزاليم بوست من اتهام للبرادعى بأنه لا يتمتع بالحياد أو التجرد فى التعامل مع الملف الايرانى «وإننى لطالما كنت من اول المدافعين عن إيران بل وأننى استخدم صلاحياتى للمساهمة فى نشر الطاقة النووية لأغراض الاستخدامات العسكرية».

تخصيب اليورانيوم
وبعد مضى أربع سنوات من التفاوض غير المؤدى إلى حل وبين شد وجذب من ايران والغرب وارتفاع للاصوات المتشددة هنا وهناك وصلت إيران إلى ما لم تكن إسرائيل وامريكا واى من حلفائها الغربيين يريدونها أن تصل: تخصيب اليورانيوم، وهو الامر الذى أكد البرادعى فى مقدمة «زمن الخداع» أنه على الرغم من كونه نقطة متطورة فى تشغيل دورة الوقود النووى فإنه لا يعنى بالضرورة السعى الأكيد للسلاح النووى خاصة ان للتخصبيب درجات يتطلب الوصول إلى المراحل المتطورة منه الكثير من العمل والوقت دونما ان يكون فى ذلك ايضا دليل على النوايا العسكرية لأن هناك دولا تستخدم اليورانيوم المخصب بدرجة 90 بالمائة للأغراض السلمية، كما يشرح مؤلف «زمن الخداع».

وفى أغسطس من 2006 أخبر البرادعى مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية ان إيران قامت بالفعل بتخصيب اليورانيوم بعد ان كانت واشنطن تصر على أن طهران ليس من حقها امتلاك «ولا جهاز واحد من أجهزة الطرد المستخدمة فى التخصيب»، وبعد ان تبنى مجلس الامن، بناء على مبادرة أمريكية بالأساس، قرارا مشددا للعقوبات على طهران، تحت الفصل السابع لميثاق الامم المتحدة الذى يجيز استخدام القوة فى حال عدم الامتثال، فى وقت تزامن مع اشتعال لبنان بالحرب التى شنتها إسرائيل فى 2006.

ويقول البرادعى: «إن فهم الجدل الذى أثير حول الملف الايرانى النووى لا يمكن ان يتحقق دون نظرة أوسع لطبيعة الأمور المضطربة فى الشرق الأوسط، خاصة بالنظر إلى الترسانة النووية التى تمتلكها إسرائيل ــ مع الأخذ بالاعتبار ان اسرائيل ليست عضوا فى اتفاقية حظر انتشار الاسلحة النووية، وإن كان ذلك لا يحول دون الشعور بوجود اختلال فى ميزان القوى فى المنطقة».

ويضيف «وبينما فشلت جهود التوصل لتسوية دبلوماسية حول الملف النووى الإيرانى، تمكن إيران من تقوية موقفها كقوة إسلامية فاعلة فى المنطقة واستغلت التطورات والأزمات فى العراق وأفغانستان والمأساة الفلسطينية والحرب اللبنانية لتقوى الشعور السائد لدى البعض بأن الغرب لديه انحياز ضد المسلمين. ولأن إيران ينظر لها على انها الدولة الاسلامية الوحيدة التى استطاعت الوقوف فى وجه الغرب فإنه اصبح ينظر لها على أنها نصر الحقوق الوطنية المهدرة للشعوب الإسلامية».

الفرص الضائعة
ويرى البرادعى أن التوصل إلى تفاهم بين واشنطن وطهران بمساعدة روسيا والدول الأوروبية والوكالة الدولية للطاقة الذرية لم يكن بالضرورة امرا مستحيلا وأن تاريخ التفاوض حول الملف الإيرانى به الكثير من الفرص الضائعة، ويرجع ذلك لأسباب عديدة يضع على رأسها سيادة منطق التشدد ولا يسقط منها تاريخ حديث به ذكريات غير طيبة فى التعامل بين البلدين، خاصة ما يتعلق بما قامت به المخابرات الأمريكية فى منتصف الخمسينيات من إسقاط لحكومة مصدق بغرض دعم الشاه وما قامت به الجمهورية الإسلامية الإيرانية فى مطلع عهدها من احتجاز لرهائن فى السفارة الأمريكية بطهران.

دول الجوار وتماهى الكثير منهم مع المواقف الامريكية إزاء إيران يبدو أيضا من اسباب إضاعة بعض فرص التفاوض، حيث إن عواصم هذه الدول كانت تتدخل أحيانا لدى قيادات دولية ساعية لإيجاد مخرج لوقف هذا الجهد، ومن ذلك ما يشير البرادعى إلى أنه وقع فى صيف 2007 عندما أراد جاك شيراك ان يعمل مع مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية حول مبادرة للتفاوض «وللأسف فإن دول الخليج ومصر بدلا من أن تدعو لحل دبلوماسى كانت تلح على القاهرة فى ممارسة أقصى درجات الضغط على إيران، بل إن الأمر وصل ببعض القادة العرب أن يطلب من شيراك عدم إرسال وزير خارجيته للتشاور مع المسئولين الايرانيين.

وفيما فهمت فإن الفرنسيين أرادوا الابقاء على حسن العلاقات مع اصدقائهم وكذلك الحفاظ على مصالحهم فى منطقة الخليج المتعلقة بعمل شركات البترول الفرنسية هناك»، ذلك بينما كانت تسعى دول أخرى مثل سويسرا والسويد لاستكشاف آفاق الحلول الدبلوماسية بما يحول دون المزيد من التدهور فى الموقف السياسى ــ وهو ما كان بالفعل، حيث أصدر مجلس الامن قرارا جديدا يشدد ويوسع من نطاق العقوبات المفروضة على طهران بينما كانت الأخيرة قد حققت المزيد من التقدم فى امتلاك التكنولجيا النووية، الذى أصبح يصعب الرجوع عنه من خلال مبادرات تدعو لوقف التخصيب أو تعليقه، وعاد الحديث عن العمل العسكرى ضد إيران يتردد.

ثم عاد حديث التفاوض ثانية بمبادرات جاء بعضها من البرادعى وبعضها من طهران والبعض الاخر من مجموعة الخمسة زائد واحد، ولكن دون أن يخلص أى منها إلى اتفاق ينهى الازمة رغم جولات ولقاءات واحاديث دبلوماسية متوالية جرى بعضها فى المكتب المتواضع لعلى خامئنى المرشد الاعلى للثورة الإسلامية فى طهران بينما الجميع يحتسى الشاى ويتناول الفواكه المجففة وبعضها الآخر فى الأجواء الفخمة لمكاتب الإليزيه بباريس بينما الرئيس الفرنسى نيكولا ساركوزى يحتسى قهوته ويتحدث على جانب من الغرفة فى هاتفه الخلوى.

2009 ــ أوباما

جاءت إدارة أوباما بدعوة لحوار اقرب مع دول العالم الإسلامى، وعاد الامال ترتفع فى التوصل لحل نهائى للملف الإيرانى، حيث «وبدت الساحة مهيأة لصفحة جديدة»، وذهب البرادعى للقاء أوباما والمشاركة فى مؤتمر دعا إليه الرئيس الأمريكى الجديد عن الأمن النووى حول العالم فى سبتمبر 2009، وتناول الحديث إيران وأفكارا عن مبادرة جديدة أبدى اوباما تأييده لها خاصة أنها كما قال للبرادعى «تحظى بتأييد إسرائيل».

لكن الصفحة الجديدة، وإن كانت أقل توترا من سابقتها من صفحات الملف الايرانى، لم تنته أيضا بالخاتمة المأمولة رغم جهود جادة بذلت وآفاق للحوار المباشر تفتحت، ليذهب البرادعى عن مكتبه فى فيينا، الذى احتفظ خلاله بمنصبه لثلاث مدد متتالية بالرغم من عناد إدارة بوش، بينما الملف الايرانى مازال عصيا عن الحل لأسباب بعضها يرتبط باستمرار غياب الثقة وبعضها الآخر يرتبط باستمرار تأثير المتشددين فى طهران كما فى واشنطن، رغم تغيب إدارة جورج دبليو بوش ولأن مجمل تعامل الغرب مع الملف الإيرانى بدا قائما على أن «لأن الغرب لم يكن مستعدا لأن يقبل بأى شىء أقل من تنازل إيرانى كامل وتام وبدون أى وسيلة للحفاظ على ماء الوجه»، وهو ما لم تكن طهران لتقبل به.
الصمدر جريدة الدستور

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق