حسن نافعة .. أمريكا و«بن لادن»: منْ قتل منْ؟

أمريكا و«بن لادن»: مَنْ قتل مَنْ؟
بقلم   د.حسن نافعة    ٤/ ٥/ ٢٠١١

فى وقت متأخر من مساء الأحد الماضى بتوقيت واشنطن (فجر يوم الإثنين بتوقيت القاهرة) حرص الرئيس أوباما على توجيه كلمة للشعب الأمريكى يعلن فيها بنفسه قتل أسامة بن لادن و«أسر جثته»، إثر غارة عسكرية قامت بها وحدة خاصة من الجيش الأمريكى على منزل كان يقيم فيه مع أسرته فى منطقة سكنية تبعد ٨٠ كيلومتراً عن «إسلام أباد».

وما كاد الرئيس الأمريكى ينتهى من كلمته حتى بدأت أركان المعمورة ترتج من أقصاها إلى أقصاها وكأن زلزالاً عنيفاً ضربها ولم تتوقف توابعه بعد. وقد كان واضحاً أن «أوباما» استهدف من حديثه توجيه رسالة من شقين: الأول عام، والآخر خاص.

 ففى شقها العام بدا «أوباما» حريصاً على التأكيد أن الولايات المتحدة لاتزال قادرة على إلحاق الهزيمة بأعدائها، طال الزمن أم قصر.

 أما فى شقها الخاص فقد أراد «أوباما» تذكير الناخب الأمريكى بأن إدارته أنجزت فى عامين ما لم تستطع الإدارة السابقة أن تنجزه على مدى ثمانية أعوام كاملة.

غير أن هذا الجزء الظاهر من قصة «بن لادن»، الذى تفوح منه رائحة حملة رئاسية مبكرة تستهدف إعادة انتخاب أوباما لفترة ولاية ثانية ينبغى ألا يحجب الجزء الغاطس منها، وهو جزء يتعلق أساساً بكيفية إدارة التنافس والصراع على النفوذ فى النظام الدولى.

 لقد حرص «أوباما» فى كلمته على التأكيد أن الولايات المتحدة لا تحارب الإسلام أو المسلمين وإنما تحارب التطرف الذى يمثله «بن لادن»، بفكر جهادى سلفى أساء للإسلام بنفس قدر إساءته للإنسانية، حين تسبب فى قتل الأبرياء من المسلمين ومن غير المسلمين على السواء، غير أن هذا الطرح ينسى، أو يتناسى، أن الولايات المتحدة هى مَنْ شجع هذا الفكر «المتطرف» ورعاه وسعى لتوظيفه لإضعاف الاتحاد السوفيتى، منافسه الأول فى الصراع على قمة النظام الدولى، وشنَّ عليه حرباً بالوكالة فى أفغانستان.

وقتها كان «بن لادن» فى نظرها محارباً من أجل الحرية، قبل أن يُهمَل ويُنحَّى جانباً حين أصبح ورقة محروقة عقب سقوط ثم انهيار الاتحاد السوفيتى. ولأن للفكر الجهادى فى الإسلام منطقه الخاص، وهو الوقوف ضد كل غاصب لأى جزء من دار الإسلام فقد كان من الطبيعى أن تصبح الولايات المتحدة، خاصة بعد قيامها باستدراج صدام حسين لدخول مصيدة الكويت، تمهيداً لشن حرب عليه اتُّخذت كذريعة لنشر قوات عسكرية فى منطقة الخليج كلها، ومنها الأراضى المقدسة فى السعودية نفسها، بحجة حمايتها تحت تهديدات نابعة من داخلها - حينئذ فقط تحول «بن لادن» من حليف، ظنته الولايات المتحدة عميلاً يمكن إهماله، إلى عدو تعمل له ألف حساب.

إذا تركنا هذا الجانب من الصورة، الذى يتصدره «أوباما» أو القاتل الذى يلبس ثوب المنتصر، وألقينا نظرة فاحصة على الجانب الآخر، الذى يتصدره «بن لادن» أو القتيل الذى يبدو مهزوماً فى تلك اللحظة، فسوف تبدو الصورة أمامنا معكوسة تماماً.

وأظن أن التاريخ سيتوقف طويلاً أمام شخصية وظاهرة «بن لادن» بكل احترام وتقدير، بصرف النظر عن مدى اتفاقنا أو اختلافنا مع الفكر الذى يطرحه أو الوسائل التى يستخدمها فى الوصول إلى أهدافه، باعتباره رجلا دافع حتى آخر قطرة فى دمه عما يؤمن به وعن معتقداته.

 وإذا كانت الولايات المتحدة تعتبر «بن لادن» إرهابياً مجرماً لأنه يقتل المدنيين فلا شك أن هذا المعيار ليس فى صالحها، فقد قتلت - وهى الدولة المسؤولة - من المدنيين فى كل العالم، خاصة فى أفغانستان والعراق، أضعاف أضعاف ما قتل «بن لادن».

ولن يكون بوسع الولايات المتحدة، التى لا تتورع عن استخدام الفيتو فى مجلس الأمن لمنع دولة توسعية ومعتدية كإسرائيل من بناء المستوطنات فى أراض مملوكة للغير احتلتها بالقوة المسلحة - أن تدّعى أن منظومة القيم التى تدافع عنها أرقى من تلك التى يدافع عنها «بن لادن».

دليلنا على ذلك أن الولايات المتحدة، التى كان باستطاعتها - إن أرادت - إلقاء القبض على «بن لادن» حياً ومحاكمته، فضلت قتله مرتكبة بذلك جريمة إنسانية يعاقب عليها القانون، وبدلاً من تسليم جثته إلى أهله ليتولوا دفنه وفقاً للطقوس الخاصة بشريعتهم الدينية، قررت إلقاء جسده فى البحر، خشية تحول قبره إلى مزار يؤمه كل المعارضين للهيمنة الأمريكية على العالم، مرتكبة بذلك جريمة أخلاقية ستظل تشكل، ولفترة طويلة مقبلة، وصمة عار فى جبين النظام الأمريكى كله.

أظن أن التاريخ سيتوقف طويلاً أمام ظاهرة «بن لادن»، الذى جمعت شخصيته بين سمات كل من «غاندى» و«شى جيفارا» فى مزيج إسلامى مدهش وفريد، ليحلل لنا الأسباب العميقة التى هيّأت له القيام بهذا الدور، ومكَّنته - وهو الفرد الأوحد الذى لا وطن له ولا دولة وراءه - من استنزاف القوة العظمى مادياً ومعنوياً، وإجبارها على التسليم بنظام دولى متعدد القطبية.

من المؤكد أن مقتل «بن لادن» بهذه الطريقة سيحوله إلى أسطورة كبرى، فهل حقاً قتلت الولايات المتحدة «بن لادن» أم أن العكس هو الصحيح؟


المصدر جريدة المصرى اليوم

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق