فهمي هويدي .. تركيا على أبواب ميلاد جديد

فهمي هويدي
14 يونيو 2011 09:05:03 ص بتوقيت القاهرة
تركيا على أبواب ميلاد جديد

 هى أكثر من مجرد انتخابات تشريعية، لأنها تفتح الباب لإعلان ميلاد جديد لتركيا يرسى أساس جمهوريتها الثانية، الذى تنتقل بها من ولاية العسكر إلى ولاية الأمن.

(1)


إن شئت فقل إننا بصدد حالة من التوافق الوطنى على ضرورة طى صفحة الانقلابات العسكرية التى تعاقب ثلاثة منها كل عشر سنوات منذ سنة 1960 (الانقلاب الرابع وصف بأنه أبيض لأن العسكر أجبروا حكومة نجم الدين أربكان على الاستقالة فى سنة 1997. أما الخامس فقد أجهض فى سنة 2007 ولا تزال ملابساته محل تحقيق حتى الآن).

الجميع اتفقوا على ضرورة وضع دستور جديد لتركيا يزيل آثار عدوان الدستور الذى فرضه العكسر إثر انقلاب عام 1980، وكرس وصايتهم على المجتمع من خلال تشديد قبضة العسكريين على السياسة، وبسط هيمنة التطرف العلمانى على مؤسستى القضاء والتعليم. وهى ذات السياسة التى فرضها كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية عشرينيات القرن الماضى، لكن المجتمع ظل يتملل منها ويحاول الفكاك من أسرها من خلال هوامش الديمقراطية المتاحة. وكانت العلامة البارزة على ذلك هى الانتخابات التى جرت فى عام 1950، التى صوتت فيها الأغلبية لصالح الحزب الديمقراطى ومنى حزب الشعب الذى أسسه أتاتورك بهزيمة منكرة أفقدته هيمنته على الحكم التى ظلت مستمرة طوال 17 عاما. وهو ما لم يغفره الجيش المفوض دستوريا بالتدخل لإقرار السلام والأمن الاجتماعى والسياسى فى البلاد، فقام فى سنة 1960 بأول انقلاب له فى ظل الجمهورية، وشكل لجنة تحقيق قضت بإعدام رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، ووزيرى الخارجية والمالية. ولم ينفذ الحكم بالأول فى حين أعدم الثلاثة الآخرون وفى المقدمة منهم عدنان مندريس رئيس الوزراء.

بإعداد الدستور الجديد يرد المجتمع الاعتبار لعدنان مندريس وصاحبيه، الذين كانوا فى مقدمة شهداء الديمقراطية فى تركيا. ويسجل الفصل الأخير فى كتاب الديمقراطية، الذى سطروا بدمائهم فصله الأول فى خمسينيات القرن الماضى. هكذا قال عزيز بابوتشو رئيس حزب العدالة والتنمية فى مدينة استنبول.

نائب رئيس حزب الشعب المنافس أوغوز ساليتشى يؤيد بدوره الحاجة إلى وضع دستور جديد، لكن حزبه لديه قائمة طويلة من الأسئلة حول الجهة التى ستعد الدستور، وحول ما سيقرره من مبادئ للمرحلة المقبلة وأهمية عرضه على الاستفتاء العام فى كل الظروف.

(2)


لأن الجميع يدركون أنها لحظة فارقة فى تاريخ تركيا الحديث، فإن السباق ظل طول الوقت مفعما بالحيوية والحماسة، ذلك أن موضوعه لم يكن فقط الفوز بأكبر عدد من المقاعد فى البرلمان والاشتراك فى تشكيل الحكومة، وإنما كان الأمر أكبر من ذلك وأبعد، لأن نسبة الفوز لها مردودها فى نسبة المشاركة فى صناعة المستقبل وتأسيس الجمهورية التركية الثانية التى تنعقد فيها الولاية للأمة لأول مرة منذ تأسست الجمهورية فى عام 1923.

رفع من وتيرة الحماسة أن قادة الأحزاب التقليدية، وفى المقدمة منها حزب الشعب الجمهورى الذى أسسه كمال أتاتورك ولا يزال يتبنى مشروعه، والحزب القومى الذى يمثل العرق والتركى والقومية الطورانية، هؤلاء أدركوا أن الزمن يكاد يتجاوزهم وأن دورهم يتراجع فى المشهد السياسى، منذ فاز حزب العدالة بالأغلبية فى انتخابات عام 2002 وشكل الحكومة منذ ذلك الوقت دون الحاجة إلى الائتلاف مع أى حزب آخر.

لهذه الأسباب فإن الأحزاب المنافسة ألقت بكل ثقلها لكى تكسر الأغلبية التى يتمتع بها حزب العدالة والتنمية فى البرلمان (يمثله فى الوقت الراهن 340 عضوا من بين 550 هم مجموع أعضاء البرلمان)، لكن طموح حزب العدالة والتنمية أكبر وأبعد هذه المرة. فهو لا يريد أن يكتفى بالأغلبية التى تمكنه من تشكيل الحكومة منفردا (النصف زائد واحد)، وإنما يطمح إلى تحقيق أغلبية الثلثين (367 عضوا) لكى يتمكن من وضع الدستور الجديد.

صحيح أن التنافس على أشده بين حزبى العدالة والتنمية من ناحية والشعب الجمهورى من ناحية ثانية، إلا أن الصورة أوسع من ذلك بكثير. فالأحزاب المسجلة رسميا عددها 60 حزبا، لكن الذين قرروا خوض المعركة الإنتابية نحو 20 حزبا فقط. والرهانات والاضواء مسلطة فى وسائل الإعلام واستطلاعات الرأى العام على أربعة أحزاب فقط تحاول جذب الانصار من بين 50 مليون ناخب. وهذه الأحزاب هى:

● حزب العدالة والتنمية الحاكم الذى ركز فى دعايته على أن الهدف هو سنة 2023، ذكرى مرور مائة سنة على تأسيس الجمهورية، شاهرا فى ذلك شعار: لكى تنعم بلادنا بالاستقرار ولكى تصبح تركيا أكبر وأعظم. ولتحقيق ذلك الهدف فالحزب أعلن عن قائمة طويلة من المشروعات العملاقة والجذابة التى تدغدغ مشاعر الجماهير التركية وتداعب أحلامها.

● حزب الشعب الجمهورى الأتاتوركى الذى تنحى زعيمه السابق بسبب فضيحة أخلاقية، ويسعى رئيسه الجديد كمال كيليجدار أوغلو، وهو يسارى علوى من أصول كردية، لتحويله إلى حزب يمثل اليسار الديمقراطى. لذلك فإنه يخاطب الأكراد والعلويين والطبقة العاملة والفقيرة. وقد ركز فى دعايته على تنفيذ بعض المشروعات التى تهم الناس، وفى مقدمتها توسيع مظلة التأمين لتشمل عائلة كردية.

● حزب الحركة القومية الذى أصبح يعانى من شدة الضعف بعد بث تسجيلات فضائحية لعشرة من أعضاء مكتبه السياسى الذى يضم 16 عضوا، مما أدى إلى استقالتهم وأحدث فراغا فى قيادته. إضافة إلى أن زعيمه دولت باهشلى عجز عن تقديم برنامج جدى ووعود انتخابية حقيقية. الأمر الذى أصبح يرشح الحزب للخروج من البرلمان (القانون يشترط لدخول البرلمان أن يحصل الحزب على 10٪ من أصوات الناخبين على الأقل).

● الكتلة الرابعة المرشحة لدخول البرلمان يمثلها الأكراد المستقلون الذين يمكن أن ينضموا تحت راية حزب السلام والديمقراطية، ويوفروا بذلك نسبة الـ10٪ التى تمكنه من دخول البرلمان.

(3)


عشت التجربة فى تركيا طوال الأسبوع الذى سبق الانتخابات. ولشدة الضجيج الذى ملأ الفضاء خيل إلىّ أن أحدا لم ينم خلال الأيام التى سبقت التصويت يوم الأحد الماضى. فسيارات المرشحين تجوب الشوارع على مدار الساعة، محملة بمكبرات الصوت التى تبث الأغانى التى أعدتها بعض الأحزاب للدعاية لنفسها وبرنامجها، كما تبث الأغانى الشعبية التى يحبها الناس ويرددونها. وفى كل ميدان مؤتمر لهذا الحزب أو ذاك. أما الإعلام ورموز الأحزاب فهى تملأ الجدران. وتظلل الشوارع، وبعضها يتدلى من البنايات الكبيرة. الأمر الذى يرشد المارة إلى خريطة أنصار الأحزاب المتنافسة فى كل حى.

قيل لى إن شدة التنافس على الانتخابات بين الأحزاب استدعت وجود شركات تخصصت فى تنظيم الحملات الانتخابية، بمستلزماتها من السيارات والملصقات والأغانى والمهرجانات وغير ذلك، لكن أكثر ما أثار انتباهى كان كثرة عدد الشبان المتطوعين الذين يشاركون فى تلك الحملات. كنت أعرف أن ثقافة التطوع للعمل الخيرى والعام شائعة فى تركيا، لكننى دهشت حين علمت أن حزب العدالة والتنمية وحده شارك فى حملته الانتخابية بمدينة استنبول وحدها 26 ألف متطوع نصفهم من النساء. وهؤلاء تفرغوا لمهمتهم طوال الشهرين الأخيرين وقيل لى إن أولئك المتطوعين لم يتركوا بيتا أو متجرا لناخب فى المدينة إلا وطرقوا بابه وتواصلوا معه واستمعوا إليه.

إلى جانب هؤلاء صادفت فى استنبول وأنقرة مجموعات من الشباب الاشتراكى الذين قدموا من أنحاء مختلفة من أوروبا للدعاية لحزب الشعب فى الشوارع والأسواق، كما كانت هناك مجموعات أكبر من البلقان وبعض الدول الإسلامية جاءوا لمساندة حزب العدالة والتنمية.
إضافة إلى ما سبق، فثمة ملاحظات أخرى تستوقف المرء فى المشهد الانتخابى فى مقدمتها ما يلى:

● إن الجدل والتراشق بين الأحزاب منصب على الشأن الداخلى بشكل عام. أما السياسة الخارجية لتركيا فلا أحد يتحدث عنها إذا استثنينا انتقادات من جانب قادة حزب الشعب لرئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ذكرت أنه اتبع مع إسرائيل «سياسة استفزازية». وانتقادات أخرى سمعتها وجهت إليه لوما لتحالفه مع سوريا (رغم انتقاداته لممارسات النظام السورى).

● إن المجتمع التركى يعيش حالة استقطاب مثيرة للانتباه. وهو ما رصده رئيس مركز أبحاث «كوندا» فى أنقرة، تارهان أردم، الذى قال إن الاستقطاب بين الناخبين ظل فى السنوات الماضية يتراوح بين 50 و60٪ ــ لكنه وصل فى الانتخابات الأخيرة إلى 80٪، الأمر الذى يعنى أن هذه النسبة من الناخبين ستصوت لهذا الحزب أو ذاك، دون مناقشة القضايا أو البرامج التى يطرحها.

● إن الأحزاب العلمانية لا تزال تثير خوف الناخبين من الخلفية الإسلامية لقادة حزب العدالة والتنمية، ملوحة فى ذلك بفكرة «الأجندة الخفية» التى يقولون إنه يستبطنها. وسمعت رئيس حزب الشعب وهو يعلن فى أحد المؤتمرات أن حزب العدالة يهدد عقائد الشعب التركى (يقصد أنه يهدد إيمانه بالعلمانية) ــ ثم وهو يكرر فى أكثر من لقاء شعبى «أن الجمهورية فى خطر».

● إنه فى الوقت الذى أصبحت تركيا على أبواب وضع دستور جديد بديلا عن ذلك الذى أصدره العسكر بعد انقلاب عام 1980، فإن قائد ذلك الانقلاب الجنرال كنعان ايفرين (94 سنة) خضع للاستجواب فى الأسبوع الماضى لسؤاله عن علاقته بمحاولة الانفلات التى جرى التخطيط لها فى عام 2007.

(4)


فوز حزب العدالة والتنمية بالمركز الأول بين الأحزاب المتنافسة أصبح مسلما به من قبل الجميع. ولأننى أكتب هذه المقالة قبل الإعلان النهائى للنتائج إلا أن الترجيحات تشير بقوة إلى أن الحزب سيفوز بأكثر من نصف المقاعد، أما أغلبية الثلثين التى يتطلع إليها فليس مقطوعا بها. وعند الحد الأدنى فإن السيد أردوغان الذى تعرض لمحاولة الاغتيال ما بين 12 و13 مرة سيتمكن من تشكيل الوزارة للمرة الثالثة. وهو خبر سار بالنسبة إليه وللحزب بطبيعة الحال، لكنه يحمل فى طياته مفاجأة لم ينتبه إليها كثيرون، خلاصتها أنها المرة الأخيرة التى يشغل فيها منصب رئيس الوزراء (الباشبكان). ذلك أن لوائح الحزب لا تسمح له ولا لغيره من القيادات بأن يشغل موقعه لأكثر من ثلاث مرات، الأمر الذى يعنى أنه فى الظروف العادية ينبغى أن يغادره إلى غير رجعة بحلول عام 2015. ليس وحده، وإنما سيخرج معه فى ذلك التاريخ 150 آخرين من القياديين فى الحزب الذين رافقوه فى رحلته. وهو ما يدركه المسئولون فى الحزب جيدا، ويتحسبون له من الآن، الأمر الذى يضيف إلى قائمة الأسئلة التى تطرحها النتائج فى صورتها النهائية، اسئلة أخرى تتعلق بمصير أردوغان وربما مصير النظام السياسى التركى فى الدستور الجديد. ولأن الأسئلة كثيرة، فلم يعد هناك مفر من العودة إلى الموضوع فى الأسبوع المقبل بإذن الله.


Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق