فاروق جويدة .. هيبة الدولة و أشباح الفوضى

بقلم: فاروق جويدة
15 مايو 2011 08:12:51 ص بتوقيت القاهرة
هيبة الدولة وأشباح الفوضى

لا يوجد أى تعارض بين هيبة الدولة والديمقراطية.. ولا يوجد أى تعارض بين القوة والعدل.. والقوة بدون العدل سلطان جائر والعدل بدون القوة سلطان حائر..

وما حدث فى مصر الثورة فى الأيام الأخيرة يدعو للخوف والقلق.. أحداث متتالية كلها وبلا استثناء تهدد هيبة الدولة، بل إنها تهدد كيان الدولة نفسها.. عندما قامت ثورة 25 يناير أخرجت للعالم أجمل ما فينا واستطعنا فى شهور قليلة أن نحقق من الإنجازات ما عجزنا عن تحقيقه فى سنوات طويلة.. ولكن الغريب فى الأمر الآن هو حالة الفوضى التى اجتاحت الشارع المصرى.

لابد أن نعترف أن الفراغ الأمنى كان من أسوأ وأخطر النتائج السلبية للثورة وكنا نتصور أننا خلال شهور قليلة يمكن أن نتجاوز ذلك ويعود الأمن إلى حالته الأولى ولكن الشواهد جميعها تؤكد أن الأمن لم يعد حتى الآن للشارع المصرى وأن هناك قصورا واضحا فى الأداء والوجود والمواجهة لا يتناسب أبدا مع الظروف القاسية التى تعيشها مصر الآن.

إن أضعف المناطق فى مصر هى منطقة التدين وهى من المناطق الحساسة التى يمكن أن تشتعل فيها النيران فى أى لحظة.. ومع التاريخ الطويل بين الدين والمؤسسات الأمنية والسياسية فى الدولة المصرية فإن نجاح الثورة فتح كل الأبواب المغلقة للتيارات الدينية باختلاف توجهاتها..

ومع غياب فرص التعبير فى ظل مناخ سياسى مختنق ومحاصر كان الدين هو المنطقة الوحيدة التى سعى إليها ملايين الشباب من الأجيال الجديدة يجدون فيها الحلم والأمن واليقين رغم أنها تحتوى على مناطق الغام كثيفة.

اتسعت مناطق التدين بين الشباب واقتربت كثيرا من التعصب والتطرف ورفض الآخر.. وقد وجدت هذه التيارات من يشجعها وينميها طوال السنوات الماضية ونجحت السلطات الأمنية فى أن تزرع حالة من حالات الصراع الفكرى التى تحولت إلى صراع دينى بين النخبة من جانب والمسلمين والأقباط من جانب آخر..

وأمام التوتر الاجتماعى والاقتصادى وسكان العشوائيات والانهيار الثقافى كان من الممكن أن تتسع مساحة النيران التى كانت تشتعل بقوة من وقت لآخر.

وقد شجع على هذا المناخ المرتبك المتوتر سلوكيات اجتماعية تحدث فى أى مكان دون أن تتفاعل أو تكبر وكان منها قصة إسلام كاميليا ووفاء ثم أخيرا مأساة إمبابة بسبب فتاة أسلمت تدعى عبير تزوجت زوجا مسيحيا وآخر مسلما.. مثل هذه السلوكيات سواء كانت زواجا أو حبا أو تغيير عقيدة يمكن أن تحدث فى أى مكان دون أن تترك أثرا على الإطلاق..

ولكن مع التشدد الدينى بين كل التيارات تحولت هذه الظواهر إلى مناطق ملتهبة أحرقت الكنائس وأسقطت القتلى ودخلت بنا إلى متاهات كثيرة.

وإذا كانت هذه الأحداث الدامية قد وجدت ما يبررها قبل الثورة فلا أعتقد أن المناخ الحالى يمكن أن يحتمل مثل هذه الفوضى.. ومن هنا يصبح غياب الدولة سببا رئيسيا فى تكرار هذه المشاهد.. ولعل هذا ما حدث حين غابت الدولة فى كنيسة أطفيح وما حدث فى قرية سول.. ثم ما حدث فى قنا بسبب تعيين محافظ قبطى..

وما تلى ذلك من أحداث أخطر فى إمبابة.. ورغم أن أسباب هذه الكوارث كانت أسبابا واهية إذ كانت مرتبطة بفتيات أسلمن أو تنصّرن.. إلا أن العامل المشترك فى ذلك كله هو غياب الدولة والشواهد كلها تؤكد ذلك.

لقد غابت الدولة أكثر من مرة فى هذه الأحداث حيث وصلت قوات الأمن إلى مواقع الحدث متأخرة كثيرا.. حدث هذا فى أطفيح وسول بعد احتراق الكنيسة وهدمها..

ثم تكرر المشهد فى إحراق كنيستى مارمينا والعذراء فى حى إمبابة.. وتأخر أيضا الحل فى أزمة قنا أسبوعا كاملا وخط السكة الحديد بين الاسكندرية وأسوان مقطوع ومرفوع من الخدمة وأمام هذا الغياب كان من السهل أن تنتقل الأزمات والمواجهات إلى ميدان التحرير وميدان عبدالمنعم رياض ومبنى التليفزيون فى ماسبيرو وأماكن أخرى كثيرة..

ثم تكرر هروب مئات المساجين من السجون واقتحام هذه السجون بالأسلحة للإفراج عن المساجين بالقوة.

لو أن الوجود الامنى كان سريعا وحاسما فى أطفيح وإمبابة وكان أكثر وجودا فى قنا وأكثر فاعلية فى ميدان التحرير وحراسة السجون لكانت النتائج أفضل بكثير مما حدث.

إن ظواهر الفوضى فى الشارع المصرى تحتاج إلى دور أكثر فاعلية للأمن سواء كان ممثلا فى القوات المسلحة أو الشرطة.

لاشك أن غياب الدولة ترك آثارا سيئة ممثلة فى أجهزة الأمن ولكن الأخطر كان غياب القانون والعدالة.. فى كل هذه الكوارث لم يقدم احد للقضاء سواء فى أحداث أطفيح أو قنا وكان ينبغى أن تأخذ العدالة مجراها فى كل الحالات..

ولكن الغريب فى الأمر أن الدولة اكتفت بالجلسات العرفية التى شارك فيها بعض العلماء وشيوخ القبائل.. وإذا كان مثل هذا السلوك يوفر على الدولة جهدا فهو يضع أساسا خاطئا للعلاقات بين المواطنين ويعود بنا إلى العصور الوسطى للقضاء العرفى وجلسات المصالحة ومواعيد العرب..

هناك عامل مشترك فى كل هذه الكوارث أن الحلول كانت عرفية ولم يعاقب شخص واحد.. ولاشك أن غياب الدولة أمنيا وانسحابها قضائيا قد فتح أبوابا أكثر للمزيد من الفوضى.

إذا كانت ثورة يناير قد أعادت لنا أجواء الحرية وأخرجت المسجونين والمعتقلين خاصة التيارات الدينية فلا يعنى ذلك أن يتصور هؤلاء أنهم قد ملكوا البلد وما عليه..

والأغرب من ذلك هو موقف الدولة التى استعانت بهم فى كل الأزمات وكأنها قررت أن تلقى عليهم أعباء مسئولياتها.. حدث هذا فى جلسات التصالح فى أطفيح وسول وقنا وكل ذلك فى ظل غياب دائم لمؤسسات الدولة الأمنية والسياسية والقانونية..

كان شيئا غريبا أن يلجأ محافظ الجيزة إلى عدد من الشيوخ لمواجهة أزمة إمبابة وأن يستقبل محافظ أسيوط مواكب أخرى من الشيوخ.. مواقف تطرح تساؤلات كثيرة وتؤكد غياب أجهزة الدولة ومؤسساتها.

لا يستطيع أحد أن ينكر التكثيف الإعلامى الذى واكب عودة رموز التيارات الدينية إلى الشارع المصرى ابتداء بخروج آل الزمر من السجون وانتهاء باعتلاء السلفيين المنابر.. وقد حدثت تجاوزات كثيرة لم تحسمها مؤسسات الدولة حين استولى السلفيون على مساجد الاسكندرية ثم مسجد النور فى العباسية ولاشك أن الاعتداء على أئمة وزارة الأوقاف وطردهم من مساجدهم واعتلاء السلفيين هذه المنابر أمام أجهزة الأمن وأمام المواطنين فى المساجد كان تجاوزا مرفوضا ينبغى منعه..

وكان ينبغى أن تفرض مؤسسات الدولة الأمنية والدينية هيبتها على هذه المساجد ولا تسمح لأحد باحتلال هذه المنابر.. إن إقامة الشعائر الدينية حق لكل إنسان ولكن بشرط ألا يتعارض ذلك مع حقوق الآخرين فى أداء شعائرهم.

شىء غريب أن يتحول الشارع المصرى إلى كل هذه التجمعات والأحزاب الدينية الإسلامية والمسيحية فى شهور قليلة دون الحصول على موافقة الأجهزة المسئولة.. هناك ائتلاف الجماعات المسيحية.. وائتلاف الجبهات الإسلامية..

هذا بجانب عشرات التجمعات الدينية الاخرى.. والغريب أيضا أن هذه الجماعات تتصارع فيما بينها وقد حدثت مواجهات فى الشارع بين الصوفية والسلفيين حول هدم الأضرحة ثم حدثت مواجهات أخرى بين الجماعات المسيحية والجماعات الإسلامية فى ماسبيرو وعبدالمنعم رياض وانتقلت هذه المعارك إلى الفيس بوك والانترنت ودارت معظمها حول كاميليا ووفاء قسطنطين وعبير.. وظهرت صور الشباب المسلم وهم يحملون صور كاميليا ويهتفون لها..

شباب فى عمر الزهور يبدأون حياتهم بصراعات دينية قبيحة وصلت بهم إلى التعصب الأعمى وانتقلت إلى معارك دامية سقط فيها عشرات القتلى.

لقد انتشرت كل هذه الأمراض فى ظل احتقان سياسى قديم وغيبة للحوار وإهدار لحق المواطن فى العمل السياسى.. لم يكن أمام الشباب المصرى غير أن يهرب من واقعه المرير حيث لا عمل ولا حلم ويرتدى عباءة الدين التى تحولت مع الكبت والقهر والاستبداد إلى سجن كبير سقطت فيه وتلاشت منظومة القيم والثوابت التى عاش عليها المصريون طوال تاريخهم من التسامح والمحبة.

والآن يطرح هذا السؤال نفسه: وما هو الحل؟
الحل يتمثل فى عدد من النقاط الأساسية:

يجب أن تعود هيبة الدولة إلى الشارع المصرى وليس معنى ذلك أن تعود فلول أمن الدولة ومواكب الحزب الوطنى والسجون والمعتقلات ولكن أن يعود الوجود الأمنى الذى يوفر الحماية الحقيقية للمواطن المصرى وأن تعود للقانون هيبته بحيث يدرك كل إنسان أن هناك قانونا يحميه ومؤسسات تعطيه حقه فى كل الحالات سواء كان مصيبا أو مخطئا.

يجب أن تقوم الدولة بكل مسئولياتها ولا تتهاون فى تحمل هذه المسئولية فى كل الأزمات.. أما أن تدفع بالجلسات العرفية والمشايخ ورجال القبائل وتعطى مؤسسات الأمن والقانون إجازة فهذه الأساليب ترجع بنا للوراء عشرات السنين.

إن من حق التيارات الدينية المختلفة أن تمارس طقوسها الدينية فى بيوت الله.. أما أن تتحول إلى مراكز وقوى سياسية تهدد أمن الموطنين وتنشر الفوضى فهنا يجب أن يكون القانون سيفا على رقاب الجميع.

إن المظاهرات التى تقوم بها التيارات الدينية فى الشارع المصرى سواء كانت مسيحية أو إسلامية معتدلة أم متطرفة تعتبر خروجا على الديمقراطية السليمة لأنها مظاهرات تفتقد الحكمة ولا تؤمن بالحوار.. حين تتجه مظاهرة من السلفيين إلى مقر البابا فى العباسية أو يقتحم الأخوة الأقباط مبنى التليفزيون ويحطمون مداخله أو يشتبك الاثنان معا فى ميدان التحرير وعبدالمنعم رياض أو يحرقون إمبابة ويقتلون بعضهم بعضا هنا يجب أن تتدخل قوات الأمن بشدة وحزم ولا تتهاون فى أداء دورها فى حماية أمن الوطن وهنا أيضا يمكن أن يصدر قرار من المجلس العسكرى بمنع المظاهرات الدينية وتجريمها.

إن الديمقراطية لا تعنى الفوضى.. والحرية الدينية تنتهى عند حرية وعقائد الآخرين وفى ظل دولة القانون يحصل كل مواطن على حقوقه.

ما يحدث فى الشارع المصرى الآن من حالة انفلات مخيفة لن يتوقف إلا إذا عادت للدولة هيبتها.. وللشارع أمن يحميه وقانون يوفر له سبل العدالة وهذه هى الثورة الحقيقية.

المصدر جريدة الشروق

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق