فهمي هويدي .. خطبة مصرية فى طهران

بقلم: فهمي هويدي
24 مايو 2011 08:57:57 ص بتوقيت القاهرة

خطبة مصرية فى طهران

 كان لابد من بذل بعض الجهد لإقناع الإيرانيين بأن الثورة المصرية ليست صدى للثورة الإسلامية، ولا هى من تجليات الصحوة الإسلامية، كما أنها ليست جزءا من المشروع الأمريكى لإقامة الشرق الأوسط الجديد.
(1)
طوال أكثر من ثلاثين عاما من متابعة أحداث الثورة الإسلامية، كنت أذهب إلى طهران محملا بمجموعة من الأسئلة، أطوف بها على من أعرف من صناع القرار والمطلعين على أسرار البلد، حيث كنت أواصل السؤال وهم يجيبون. لكن الأمر اختلف هذه المرة، إذ أدركت منذ اللحظة الأولى أننا تبادلنا الأدوار. حين وجدت أن لدى الإيرانيين قائمة طويلة من الأسئلة التى تنتظر الإجابة حول الذى جرى فى مصر. ولم يكن السائلون من الدبلوماسيين والمثقفين فحسب، وإنما سبقهم إليها عدد من كبار المسئولين الذين اكتشفت أنهم يتابعون ما تنشره الصحف المصرية كل صباح، ويجدون فيها ما يحيرهم بأكثر مما يجدون ما يشبع فضولهم ويفهمهم.
كانت المناسبة أن معهد الدراسات السياسية والدولية التابع لوزارة الخارجية قد دعا إلى ندوة ليوم واحد حول «الانتفاضات الشعبية فى البلدان العربية وتأثيرها على مستقبل القضية الفلسطينية»، وتحدد موعد الندوة فى 15 مايو الحالى، وهى ذكرى اغتصاب فلسطين وإعلان دولة إسرائيل فى عام 1948. وفى إشارة لا تخلو من دلالة فإن المعهد دعا للحديث فى الندوة التى كان جمهورها من الدبلوماسيين العاملين، اثنان من مصر فقط هما الدكتور حسن نافعة، أستاذ العلوم السياسية، وكاتب هذه السطور. إلى جانب ثلاثة من الباحثين الإيرانيين، فى مقدمتهم وزير الخارجية السابق السيد منوشهر متكى. وقال لى أحد السفراء الذين تولوا تنظيم الندوة إنهم اكتفوا بالمتحدثين المصريين ليس فقط للأهمية الكبرى للثورة المصرية، ولكن أيضا لإدراكهم أن مصير القضية الفلسطينية مرتبط إلى حد كبير بسلامة الموقف المصرى وعافيته. مضيفا أن الاطمئنان على مصر يستصحب بالضرورة اطمئنانا على مستقبل القضية، بل ومستقبل العالم العربى بأسره.
من الأمور ذات الدلالة أيضا أنه رتبت لنا إلى جانب الندوة، سلسلة من اللقاءات مع رئيس مجلس الشورى السيد على لاريجانى، ومستشار الأمن القومى السيد سعيد جليلى، ووزير الخارجية الدكتور على أكبر صالحى، ومساعد وزير الخارجية لشئون الشرق الأوسط ووسط آسيا السفير رضا شيبانى. كما رتب لنا لقاء آخر مع أساتذة وطلاب جامعة الإمام الصادق، التى تخرج نخبة العاملين فى المجالين السياسى والدبلوماسى وفى كل هذه اللقاءات كانت الثورة المصرية هى موضوع الحديث من جانبنا، كما كانت وقائعها ومواقفها محور السؤال من جانبهم، ولأن كلا منا كانت له حصته من الحديث ومن السؤال، فسأعرض هنا لحصتى باختصار، تاركا للدكتور حسن نافعة أن يعرض نصيبه بالصورة التى يرتئيها.
(2)
قلت إن العالم العربى شهد فى ستينيات القرن الماضى انتفاضة الشعوب العربية ضد المحتل الأجنبى، الإنجليزى والفرنسى، وكانت ثورة يوليو 1952 هى الشرارة الأولى فى حملة انطلاق حركات التحرر التى ترددت أصداؤها فى أرجاء أفريقيا. وما يحدث الآن فى العالم العربى هو ثورة مماثلة، تدافع بها الشعوب عن كرامتها. إذ تقاوم الظلم والذل اللذين أنزلهما بها البديل الوطنى، بعدما تحول إلى «احتلال» من نوع آخر، شوه الاستقلال وفرغه من مضمونه، حتى صار ذلك البديل عبئا على الأوطان وعقبة فى طريق تقدمها. استشهدت فى ذلك بقصة المرأة الجزائرية التى استشعرت الظلم والعنف بعد إعلان الاستقلال، فقالت إن الاستعمار الفرنسى استمر نحو 130 عاما ثم رحل غير مأسوف عليه، ثم تساءلت: متى ينتهى هذا الاستقلال بدوره؟
قلت أيضا إن ثمة أوجه شبه بين الثورة الإسلامية فى إيران وثورة 25 يناير فى مصر، كما أن هناك اختلافات عدة بينهما. فهما متشابهان فى أن كلا منهما استهدف ليس تغيير النظام فحسب، ولكن قلب سياساته رأسا على عقب، وإن اختلفت فى ذلك الوسائل. كما أن الشعب هو الذى قام بالثورة فى البلدين وليس قوة سياسية أو عسكرية. كذلك فإن النظامين السابقين فى كل من البلدين كانا يقفان فى المعسكر الموالى للولايات المتحدة وإسرائىل وأصبحا يشكلان أهم تحديات ما بعد الثورة. ولئن كان ذلك قد أعلن فى إيران إلا أنه لا يزال كامنا ومضمرا فى الحالة المصرية. يتشابه البلدان أيضا فى الفوضى التى شاعت فى كل منهما بعد نجاح الثورة، وأخلت بنظام العمل فى جميع أجهزة الدولة ومرافقها العمومية. ثم إن كلا من الثورتين كان لهما تأثيرهما الاستراتيجى على المستوى الإقليمى. فكما غيرت الولايات المتحدة الأمريكية من خطط تعاملها مع «الاتحاد السوفييتى» فى أعقاب الثورة الإسلامية، حيث كانت واشنطن تعتبر إيران «كنزا استراتيجيا» لها، فإن الوصف ذاته أطلق على علاقة الرئيس السابق ونظامه مع إسرائيل. وإذا كانت قضية فلسطين قد اعتبرت عنوانا مهما منذ إطلاق الثورة الإسلامية، فإنها تظل أحد أهم مقومات الأمن القومى المصرى.

(3)
مواضع التمايز والاختلاف أكثر بين الثورتين. فالثورة فى إيران دينية، لها رأس تمثل فى الإمام الخمينى، ولها مشروع واضح يقوم على فكرة ولاية الفقيه. وهى فى مصر ثورة وطنية، والإسلاميون جزء منها، ثم إنها بلا رأس أو قيادة واضحة المعالم. ومشروعها لايزال غامضا وغير متفق عليه. إن شئت الدقة فقل إن الذين قاموا بالثورة فى مصر كانوا يعرفون جيدا ما يرفضونه لكنهم ليسوا على وفاق مع ما قبلون به. ولئن اعتمدت الثورة فى البلدين على الجماهير الفقيرة والعزلاء، إلا أن التباين حدث فى موقف الجيش فى كل منهما، إذ كان ولاؤه لنظام الشاه فى إيران الأمر الذى اضطر النظام إلى الاستعاضة عنه بتشكيل حرس الثورة. أما الجيش فى مصر فقد كان ولاؤه للوطن، وقد حسم خياره مبكرا حين أعلن انحيازه إلى جانب مطالب الشعب. والثورة المصرية ركزت على المطالب الوطنية الداخلية، وسكتت عن السياسة الخارجية، فى حين أن الثورة الإيرانية فتحت كل الملفات منذ يومها الأول، الذى رفعت فيه شعارات الموت لأمريكا وإسرائيل (مرك بر) وأعلنت القطيعة مع الشيطان الأكبر وتابعه الأصغر، وترتب على ذلك أن البلدين ناصبا العداء للثورة الإسلامية منذ يومها الأول، فى حين أنهما تصرفا بحذر ولجآ إلى الملاينة ومحاولة الاحتواء فى الحالة المصرية. والثورة الإسلامية انطلقت فى ظل الحرب الباردة واستفادت من التوازن بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. وهو ظرف لم يتوفر للثورة المصرية، التى انطلقت فى أجواء القطب الأمريكى الواحد، وفى غيبة أى توازن دولى. والثورة الإسلامية قامت فى بلد يبعد آلاف الكيلومترات عن إسرائيل، بينما المصرية انطلقت فى بلد ملاصق لإسرائىل، الأمر الذى كان له تأثيره على حسابات كل من البلدين. والثورة الإسلامية كان لها صداها فى العالمين العربى والإسلامى. ولم تغير شيئا فى واقع أنظمته رغم مضى أكثر من ثلاثين عاما على نجاحها. أما الثورة المصرية فهى فى موقف معاكس، حيث أحدث انطلاقها هزات قوية ترددت بسرعة وخلال أسابيع قليلة فى أرجاء العالم العربى. وربما كان ذلك مرتبطا بالوزن التاريخى ودور كل من البلدين فى المحيط الاستراتيجى. وإذا كانت الثورة الإيرانية لم تتعرض لهزات اقتصادية موجعة بسبب اعتماد البلد على صادرات النفط، فإن موقف مصر اختلف، حيث أدى نزوح الأموال وتهريبها إلى الخارج إلى إحداث موقف اقتصادى صعب ومؤرق للسلطة، خصوصا فى ظل الاعتماد على الخارج فى توفير المواد الغذائية. وقد اعتمدت ثورة إيران على المحاكم الاستثنائية فى إزالة آثار النظام السابق وتصفية بقاياه، إلا أن الثورة المصرية ظلت على تعاملها السلمى بعد نجاحها، وأحالت رموز النظام السابق بمن فيهم رأسه إلى النيابة العمومية والقضاء العادى. وإذا كانت رموز نظام الشاه قد غادرت البلد معه، فإن رموز نظام مبارك بوغتت بما جرى وبقى أغلبهم فى مصر، وكان هو فى مقدمتهم. وترتب على ذلك أن رجال الشاه ضعف تأثيرهم فى داخل إيران، على عكس ما حدث فى مصر حيث لم يكف رجال مبارك وأدواته الأمنية بعيدة عن محاولات التآمر على الداخل.

(4)
كان السفير رضا شيبانى مساعد وزير الخارجية فى زيارة أخيرة لطاجكستان، وحين التقى رئيسها السيد رحمانى وتطرق الحديث إلى ما جرى فى مصر، فإن الرجل أخبره بأن الثورة المصرية والأحداث التى توالت بعدها فى العالم العربى هى من تجليات «الفوضى الخلاقة» التى تحدثت عنها كوندوليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا السابقة، لذلك فإنه يعتبرها ضمن خطوات إقامة الشرق الأوسط الجديد. ولم تكن الملاحظة مفاجئة تماما، لأن أحد الدبلوماسيين سأل أثناء الندوة عن مدى صحة الخبر الذى ذاع فى واشنطن عن أن الإدارة الأمريكية دربت 5 آلاف شاب مصرى من الذين اشتركوا فى الثورة. وقال لى أحد الخبراء الإيرانيين إن بعض الإصلاحيين يعتبرون الثورة جزءا من المشروع الأمريكى. فى حين أن بعض المحافظين يعتبرونها من أصداء الثورة الإسلامية ومن تجليات الصحوة الإسلامية، وقد لاحظت أن هاتين النقطتين كانتا موضوعا للتساؤل المتكرر من جانبهم، كما انهما ظلتا محل نفى وإيضاح من جانبنا.
الموضوع الآخر الذى احتل مساحة كبيرة من الأسئلة انصب على مستقبل العلاقات المصرية الإيرانية وتفسير العلاقات الباردة بين القاهرة وطهران التى مازالت مستمرة بعد الثورة وإن بدرجة أقل، وقد كان هذا الموضوع محل مناقشة فى اللقاءات التى عقدناها. إلا أننا فوجئنا بما سمعناه من السيد على لاريجانى فى هذا الصدد، إذ نفى أن التوتر سببه الحساسيات والمخاوف الأمنية وموضوع الشارع الذى يحمل اسم قاتل السادات خالد الإسلامبولى. وقال إنه حين كان مستشارا للأمن القومى زار القاهرة والتقى الرئيس السابق ومدير المخابرات حينذاك السيد عمر سليمان، وإن مبارك قال له إنه يريد شيئا واحدا من إيران، هو أن يسلموا لمصر شخصا اشترك فى محاولة اغتياله فى عام 1995، وإذا ما تم ذلك فستعود العلاقات طبيعية بين البلدين. أضاف لاريجانى أنه عاد بالاسم إلى طهران وأن الأجهزة الأمنية ظلت طوال شهرين تبحث عنه ولم تجد له أثرا فى إيران!
سألوا أيضا عن حظوظ الإخوان المسلمين فى الانتخابات القادمة وعن امكانية إقامة حكومة دينية فى مصر. كما سألوا عن العلاقة بين الجيش والإدارة الأمريكية، وعن علاقة مصر بإسرائيل ومستقبل اتفاقية كامب ديفيد، وعن موقف مصر من المقاومة الفلسطينية ومصير معبر رفح. سمعنا منهم عتابا لتجاهل الإعلام العربى معاناة الشيعة فى البحرين، وتعاطفا وتضامنا مع النظام فى سوريا. وقلة ممن لقيناهم عبروا عن حيرتهم إزاء ما يحدث هناك، وسمعت أحدهم يقول إن استمرار النظام السورى بعد الذى جرى أصبح مشكلة وإن سقوطه سيكون مشكلة أكبر.
طوال 48 ساعة ظلوا يلاحقوننا بطوفان الاسئلة حول الذى يجرى فى مصر والعالم العربى، الأمر الذى لم يتح لنا أن نطرح ما عندنا من استفسارات بشأن التطورات الحاصلة فى إيران. وهو ما جعلنى أقول لمرافقى إن المباراة لم تكن عادلة، وإننا لم نستطع أن نحقق التعادل فى نهاية المطاف. فرد عليه قائلا ما معناه: خيرها فى غيرها.

المصدر جريدة الشروق

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق