بلال فضل .. مناخير الفرعون

بلال فضل
مناخير الفرعون
Thursday, August 4, 2011 at 11:09am

هذا مقام الحمد فالحمد لله والمجد للشهداء، هذا مقام التكبير فالله أكبر وتحيا مصر، هذا مقام الأمل فارفع رأسك فوق أنت مصري، هذا مقام الفرحة فالمجد للثوار من كل الإنتماءات والتيارات والمذاهب والإتجاهات للذين تظاهروا والذين اعتصموا للذين هدأوا والذين انفعلوا للذين تفاءلوا والذين تشاءموا للذين فرقهم الكثير وجمعهم حب الوطن، هذا مقام الذكرى فلنتذكر أن مصر وضعت أقدامها فقط على بداية الطريق، هذا مقام الوعى فلنقلب صفحات التاريخ قبل أن نصدر أى حكم من أى نوع على ماجرى ويجرى لعل الغافلين يتذكرون أننا أمام لحظة تاريخية لم تشهدها مصر والأمة العربية منذ فجر التاريخ.

أنا فى البداية فور أن رأيت وجه مبارك وهو يدخل إلى قفص المحكمة، بكيت، بكيت بغزارة، على الفور وجدتنى أعيش من جديد كل دقيقة عشتها فى يوم 28 يناير، تذكرت رغبتى فى نصر سريع لكى أعود إلى زوجتى وبناتي، تذكرت خوفى من الموت الذى جعلنى أكتشف أننى أحب الحياة بجنون لكننى اكتشفت أيضا أننى لم أكن قد عشتها حقا قبل أن أنزل طلبا لها فى وطن تسوده الحرية والكرامة والعدالة الإجتماعية، تذكرت عجزى عن التنفس الذى نسيته أمام عجزى عن فعل أى شيئ لرجل أخذ يلفظ أنفاسه الأخيرة أمام عينيّ فى شارع جانبى متفرع من كوبرى الجلاء بعد أن كان آخر ماقاله تحيا مصر وهو يرفع يديه إلى السماء مشيرا بعلامة النصر، تذكرت مشاعر الإنهزام وهى تبدو جلية فى عيون الذين وقفوا متناثرين فى ميدان الجلاء وقد عجزوا عن التنفس، ثم تذكرت كيف ردت فينا الروح جميعا ونحن نرى مئات الآلاف يتدفقون من شوارع إمبابة وبولاق الدكرور والهرم وفيصل والجيزة ليسقط فى تلك اللحظات نظام حسنى مبارك، قبل حتى أن نعرف أنه سقط وقبل حتى أن يخطر على عقله أنه سقط.

الثورة فعل فردي، مهما بدت جماعية لا يمكن أن تنسى أن لكل ثائر ثورته، له لحظاته التى يشعر فيها بالخوف والإرتباك والخذلان واللخبطة والأمل، وله لحظته التى يشعر فيها بالنصر، إذا كنت ستسألنى عن اللحظة التى رأيت فيها سقوط نظام مبارك حقا، فهى اللحظة التى رأيت فيها الفرعون المخلوع يلعب فى مناخيره داخل قفص الإتهام، قد تراه إختيارا أهوج لا يليق بجلال المناسبة وبهائها، لكننى أراه إختيارا يليق بمبارك نفسه ونظامه وطريقة حكمه، إختيارا صغيرا يليق بمعنى كبير، معنى الفرعون الذى كسر أحرار شعبه مناخيره المغرورة المستبدة المتعالية العنيدة البليدة وأدخله إلى قفص الإتهام، معنى التاريخ الذى أعاد أحرار المصريين كتابته ليأخذوا بلحظة رمزية بسيطة ثأرا لآبائهم وأجدادهم الذين أذلهم الفراعنة على مدى التاريخ، من اليوم سيكون هذا مصير كل طاغية يقتل شعبه ويسرق ثرواته ويصادر إرادته ويهين كرامته، أن ينتهى به الأمر معرضا للظهور أمام الملايين وهو يلعب فى مناخيره داخل قفص الإتهام.

كل محاولات إضفاء الجلال والشجن على الفرعون باءت بالفشل، أفشلها مبارك نفسه بنظرات عينيه المتبلدتين، بإصراره على الصبغة حتى النهاية ليذكرنا بإصراره الدائم على الوقوف ضد قوانين الطبيعة، بإصراره على الدخول فوق سرير طبى لكى يذكر الناس بالمعتقلين الذين كانوا يُقيدون بالكلابشات إلى الأسرة المتهالكة فى المستشفيات السلخانات، وأخيرا برغبته فى أن يبدو غير مكترث وغير منهزم وغير آبه بما حدث وبما سيحدث حتى لو كان ذلك عبر إدخال أصابعه فى مناخيره التى لازال يظن أنها تلامس عنان السماء. فشلت محاولات جلب التعاطف بمجرد رؤية الناس لسحنة إبنه الحالم بعرش مصر الذى أعطاه الله كل شيئ وسلب من وجهه الحياة، بظن إبنه الأكبر أنه لو حمل مصحفا سيتمكن من محو حقيقة أن حكم أبيه كان يمثل تناقضا كاملا مع كل المعانى التى نزل المصحف الشريف لكى تسود فى هذه الأرض التى استبد بها أبوه وعاث فيها فسادا، وأخيرا فشلت برؤية الناس لملامح الرجل الذى إختاره مبارك لكى يحمى عرشه بالحديد والنار والرصاص الحى والمطاطى والغاز المسيل للدموع والكهرباء والعصى الخشبية والهراوات وموات القلب.

اللحظة أكبر من الكتابة، أكبر منا جميعا، أكبر من الثوار والفلول، من المتفرجين والشامتين والساخطين والخاشعين، لذلك لا تتعجب من أى رأى تسمعه حتى لو بدا لك أنه مبالغ أو أبله أو مُغيب أو عاجز عن رؤية الواقع أو غير قادر على إدراك أن الثورة تحتاج بشدة إلى أن تكون محاكمة مبارك عادلة ومنصفة، وأن المعركة القانونية ستكون شرسة وطويلة ومجهدة ودنيئة أحيانا، لكن كل محاولات الإلتفاف على القانون والنفاذ من ثغراته لن تمحو ولو للحظة الحقيقة التى كتبها أحرار مصر فى يوم الثالث من رمضان المبارك، المبارك بجد، هذه اللحظة التى أظن أنك لو سألت التاريخ نفسه هل يفهم مايحدث لوجدته غير مصدق لها أو غير قادر على إستيعابها، لكن أرجوك وأحب على إيدك، لا تجعل إدمان اليأس يحرمك من الفرحة، ولا تجعل الفرحة تنسيك أن ماحدث ليس سوى بداية، بداية لطريق طويل نحو الحرية والمدنية والتقدم والخلاص من حكم العسكر، بداية لبناء دولة كبيرة لا يحكمها رمز بل يحكمها دائما رجل أصغر منها ومن شعبها، بداية لمجتمع يسوده العدل الذى لا يستثنى أحدا أيا كان، وبداية لشعب جديد على كل فرد فيه أن يحارب المستبد الذى يحكم بداخله والفاسد الذى يعشش فى تفكيره.
والله وباضت لك فى القفص يامصر.. فاسلمى فى كل حين.

هذا المحتوى من

 

Share

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق